ألعاب الفيديو: مساحات مبتكرة للجمال

الألعاب الحديثة ذات تكاليف الصناعة الهائلة تمكّن اللاعب من التحرك ضمنها واختبارها، وامتد الأمر إلى العوالم ثلاثية الأبعاد، التي تعتمد على جسد اللاعب بأكمله.
الأحد 2018/09/16
أول لعبة فيديو في العالم

يعود تاريخ أول لعبة فيديو إلى مطلع الخمسينات، وكانت عبارة عن شاشة بسيطة تتحرك عليها نقطة، ومن حينها، تطورت هذه الصناعة الثقافيّة، ودلالاتها السياسيّة، لنرى أمامنا ألعابا بأحجام كبيرة توجد في الأماكن العامة وصالات الألعاب، إلى جانب تلك التي يمكن امتلاكها بشكل شخصي في متناول اليد.

فالألعاب الحديثة ذات تكاليف الصناعة الهائلة والعوالم المتخيّلة، تمكّن اللاعب من التحرك ضمنها واختبارها، وامتد الأمر إلى العوالم ثلاثية الأبعاد، التي تعتمد على جسد اللاعب بأكمله، إذ لا يكتفي الفرد بمجرد المشاهدة والاستمتاع باللعبة، بل اختبار عوالمها على امتداد لحمه، ليتحول العالم من حولنا إلى لعبة فيديو، نختبره من وجهة نظر جديدة.

تحولت ألعاب الفيديو منذ مطلع الثمانينات إلى جزء من القطاع الفنيّ، ولا نقصد هنا استخدام التقنيات المختلفة لتصنيع الأعمال الفنية ضمن العالم الرقميّ، بل ألعاب الفيديو نفسها، التي نلعبها على المنصات الخاصة بنا في المنزل أو العمل، على الهاتف النقال أو جهاز مخصص، فهي ليست وسيلة تسلية فقط وصناعة ثقافية ذات مردود هائل، بل تختزن داخلها تجربة جماليّة، تحوي داخلها عناصر فنيّة واجتماعيّة وتقنية.

بقيت الدراسات الرقميّة حتى منتصف التسعينات تركز على الجوانب البصريّة من ألعاب الفيديو، أي التصميمات الغرافيكية وموضوعاتها، دون الاعتراف باستقلاليّة اللعبة كموضوعة فنيّة، تحوي عناصر تشكيلية وثقافيّة، إلى جانب الموسيقى والأداء، والقدرة على تطوير تقنيات السرد.

 إلا أن مطلع الألفية شهد تطورا هائلا في أنظمة الألعاب، وتحولت إلى عمل فنيّ مستقل وموضوعة جماليّة، إذ قامت وزارة الثقافة في فرنسا عام 2006 باعتبار  ألعاب الفيديو شكلا من أشكال التعبير الفنيّ، وحصل عام 2011 ثلاثة مصممي ألعاب على وسام الفنون والآداب الذي تمنحه الجمهورية الفرنسيّة.

اللعب كتجربة جماليّة

من أين يأتي الجمال في ألعاب الفيديو؟ التعريفات التقليدية لعلم الجمال ترى في الجمال الفنيّ متعة يتذوقها الفرد، ولا يقدر على التعبير عنها عقليا، وهذا ما يحصل مع ألعاب الفيديو. بالاعتماد على التعريف السابق، نرى أن جماليات ألعاب الفيديو تحيل إلى تجربة حسيّة يختبرها اللاعب، إلى جانب احتواء اللعبة لأشكال فنيّة أخرى.

 والأهم، أن تجربة اللعب تحوي لذة ينالها اللاعب، سواء كانت عاطفية أو عقلية، هذا ما يحيل إليه غريم كريكباتريك منظّر علم جمال ألعاب الفيديو، الذي يرى أن “المتعة الجماليّة” التي ينالها الفرد، لا تأتي فقط من المتخيل الذي يراه على الشاشة ويشارك بصناعته، بل من الإحساس الجسديّ باللعب والزمن الذي يشغله هذا الجهد.

"المتعة الجماليّة" التي ينالها الفرد، لا تأتي فقط من المتخيل الذي يراه على الشاشة ويشارك بصناعته، بل من الإحساس الجسديّ باللعب والزمن الذي يشغله هذا الجهد

الحسيّة السابقة للعب ترتبط بعوامل فيزيائيّة، كالتركيز الكامل على مكونات اللعبة والأنماط البصريّة التي تولدها، وأسر انتباه اللاعب ما ينفي إدراكه لما يحيط به، والأهم أن ألعاب الفيديو تحتوي الخبرة المتخيلة المرتبطة بتأدية الدور، فاللاعب يؤدّي ويتحكم بشخصية لا تشبهه لا جسديا ولا فكريا، هو يمارس عملية “تفكيك الجسد” إذ ينفي جسديته، ويركز حواسه على الجسد الرقمي، في سبيل معايشة تلك العوالم التي تحويها الشاشة، هذه العملية تخلق نشوة التماهي مع جسد “الشخصيّة”، مشابهة لتلك التي تحصل مع الممثل/ اللاعب في السينما أو المسرح.

التساؤل الحسيّ المرتبط بالألعاب امتد ليشمل كافة الحواس، ويهيمن على المخيّلة، فالألعاب الحديثة ورطت جسد اللاعب نفسه في الشاشة، فتقنيات الواقع الافتراضيّ خلقت تجربة حسيّة تتجاوز المتخيل، نحو واقع فائق، لنصبح أمام امتداد للحواس، لا تحكمها ضمنه التجربة الواقعيّة، بل مجموعة مع الخوارزميات التي تضبط السلوك ضمن الواقع الافتراضي، وتحدد سير اللعبة.

 هذه الخوارزميات هي المسؤولة التي تتيح لنا أن نحاكي بأجسادنا ذلك الفائق، وميزاته اللاواقعيّة، وهنا تبرز التساؤلات عن مستقبل ردود الأفعال وتجربة اللعب ومدى تأثيرها على الواقعي، وهذا ما يصفه سلافوي جيجيك في “حقيقة الافتراضي”، إذ يرى أن الكمبيوتر وتقنياته برمجت نفسها ضمن عالمنا الرمزيّ، ليتحول الكمبيوتر إلى وسيلة للسيطرة والغموض في ذات الوقت.

العالم كلعبة

خطورة التجربة الجماليّة والحسيّة التي تولدها الألعاب، قد تحمل العديد من النتائج السلبيّة، إذ نقرأ عن الكثير من الحالات عن لاعبين بدأوا بممارسة ما يشاهدونه من عنف في الشاشة على أرض الواقع، وتعتبر شركة “روك ستار” صاحبة لعبة “GTA”، من أكثر الشركات التي تعرضت لانتقادات ودعاوى قضائية، بسبب تشابه الكثير من الجرائم في الولايات المتحدة مع مسار اللعبة وخصوصا تلك التي يقوم فيها اللاعب بقتل رجال الشرطة.

تسللت تقنيات الألعاب هذه إلى الأنظمة السياسيّة، كما يحدث في الصين، التي بدأت بتطبيق نظام لعب يحكم سكانها، بحيث تتأثر حياة الأفراد بمدى نشاطهم الواقعي مع الآخرين، وانصياعهم للقوانين وأنظمة مؤسسات الدولة، نظام التقييم هذا يحدد الفئة التي ينتمي لها كل فرد، ما يؤثر على عمله وتأمينه الصحي وإمكانية تنقله، وكأن مساحات الحياة تحولت إلى مساحة للعب، يتنافس فيها اللاعبون/ المواطنون بين بعضهم البعض من أجل اجتياز المراحل المختلفة.

مازالت المنطقة العربيّة متأخرة جدا في مجال ألعاب المنصات، ناهيك عن الأسئلة الجمالية المرتبطة بها، بالرغم من إنتاج العديد من تطبيقات الهاتف النقال، إلا أن تجارب تصميم ألعاب متكاملة لمنصات اللعب أو الكمبيوترات مازالت بدائيّة، وإن حصلت فهي محمّلة بالرسائل السياسيّة، ويكتفي البعض بتعديل الألعاب الأصلية، وإدراج بعض التصميمات الغرافيكية التي تحاكي البيئة العربيّة دون جهود حقيقية للإنتاج المتفرد.

14