مصريات يبحثن عن الأمان في حديقة للنساء فقط

في تجربة فريدة لحماية النساء من التحرش، تم إنشاء أول حديقة نسائية بحي إمبابة في القاهرة، بحثا عن ممارسة آمنة للعديد من الأنشطة، على غرار مشروعات مشابهة في مناطق أخرى تحمل لافتة "للنساء فقط".
وهو ما ينذر بفرض ستار من العزلة، قد تكون لها أبعاد اجتماعية كبيرة، لكن لها أيضا دلالات مدنية تتنافى مع درجة الانفتاح التي تخطوها مصر على أصعدة أخرى.
وظهرت أماكن تحظر الاختلاط بين الجنسين، حملت لافتة "خاصة بالنساء فقط"، منها مقاه وشواطئ وحمامات سباحة ومكتبات وسيارات أجرة وعربات في مترو الأنفاق. ومؤخرا جرى تدشين حديقة رفعت شعار "للنساء فقط".
وقالت منال عفيفي، سيدة في منتصف الأربعينات، لـ"العرب"، "منذ علمت بافتتاح الحديقة، أصبحت وجهتي الوحيدة لي ولأطفالي لقضاء وقت ممتع مع صديقاتي، والمكان يشعرنا بالرضا وأصبحت لدينا نزهات مريحة مماثلة للرجال مع أصدقائهم".
وأضافت "نساء كثيرات يتعرضن للعنف الأسري والمجتمعي يُقابَل بإحباط وتوتر، قد يدخلن في حالة اكتئاب مستتر، ما يؤثر بالسلب على الأسرة ويؤدي إلى المزيد من المشاجرات، وأضفت الحديقة بهجة لحياتنا الأسرية، وساهمت في تحسين الحالة المزاجية للكثيرات".
وأردفت قائلة "على الأقل وجدت متنفسا بأجر رمزي يساعدني على الخروج من دوامة الحياة، هنا يمكنني أن أضحك وأتحرك على سجيتي دون قلق، ويكفي شعوري بالأمان أنا وأطفالي والتنقل دون خوف من تجاوزات الشباب، وحديثي في الحديقة يتم بعيدا عن القيود المفروضة في حضور الرجال، فثمّة سلوكيات تلتزم بها المرأة في حضورهم".

وجاءت فكرة الحديقة النسائية في إطار برنامج "مدن آمنة خالية من العنف ضد النساء والفتيات" بدعم من الأمم المتحدة وهيئة المعونة الأميركية، أملا في وقاية النساء من ظاهرة التحرش، بعدما كشفت دراسات أن حوالي نصف النساء في حي إمبابة بالجيزة القريبة من القاهرة تعرضن للتحرش.
ولم تكن الحديقة بمعزل عن البنايات السكنية، ولا يفصلها عن قسم الشرطة إلا خطوات قليلة، وكان لذلك مغزى، كما قالت سعاد حسين المديرة التنفيذية لجمعية حواء المستقبل، وإحدى المشاركات في إطلاق المشروع، “أصبحت نساء الحديقة في حماية أبناء المنطقة والأمن”.
وتعتبر الحديقة هي الأولى من نوعها في مصر، وسوف يتم نشر التجربة في منطقتين أخريين بالقاهرة، تتسمان بالعشوائية، هما منشأة ناصر وعزبة الهجانة، في إطار مشروع لمكافحة العنف ضد النساء، تنفذه هيئة الأمم المتحدة بالشراكة مع المجلس القومي للمرأة، ضمن مبادرة عالمية تم تدشينها عام 2011 لإدماج المرأة في التطوير العمراني وجعل المدن والمساحات العامة أكثر أمانا.
النساء في مصر لسن بحاجة إلى مساحات ضيقة آمنة، لكن بحاجة إلى أن تكون كل الفضاءات العامة آمنة، يتحركن فيها بلا قلق
ولقيت الفكرة صعوبات كثيرة كانت كفيلة بإجهاضها، عندما لم يستمع سكان المنطقة لكلام المتطوعات وسخروا منهن، ولم يسمحوا لبناتهن بالمشاركة في المشروع، فغالبية أهالي المنطقة كانوا على اقتناع بأن التحرش سببه الفتاة، بلباسها وحركاتها وتصرفاتها.
وأشارت سعاد إلى أن الوضع تغير مع الوقت، ووجدت المبادرة ترحيبا، وجذبت عددا كبيرا من الأفراد (من الجنسين) شاركوا في تنفيذ الحديقة لتخرج إلى النور أخيرا، بعد خمس سنوات من التعثر.
ولاحظت “العرب” أن الحديقة مساحتها صغيرة، لكن تخطيطها راعى تكامل الخدمات وتلبية احتياجات الفئات العمرية المختلفة في الأسرة، وتتواجد فيها متطوعات لتنمية مهارات المترددات عليها. وهناك معرض دائم للمنتجات اليدوية للنساء وورشة فنية للأطفال لتنمية مهارات الرسم على الزجاج، وندوات توعية وعروض مسرحية لرفع الوعي حول أشكال العنف ضد النساء والفتيات.
وأكدت مترددات على الحديقة أنه عندما يتعذّر تغيير عقلية بعض الأفراد، فالحل يكمن في إيجاد مخرج مناسب، والحديقة بالنسبة لهن متنفس خارج أسوار المنزل ومساحة آمنة من العنف الذي يمارس ضدهن، ويلتمسن فيها الترفيه المصحوب بحماية لم يستطع المجتمع توفيرها لهن.
ولا تقتصر الحديقة على حماية السيدات من الرجال في الخارج فقط، كما قالت حارسة أمن موجودة على بوابة الحديقة، مضيفة “في الداخل معايير صارمة لمراقبة انضباط المتواجدات وتقييم سلوكهن حتى لا تظهر تصرفات شاذة، فهناك فتيات أخطر على بعضهن من الرجال”.

وفي الوقت الذي لاقت فيه تجربة الحديقة الوليدة ترحيبا من سيدات وفتيات المنطقة، حذرت حقوقيات من أن التجربة تمثل “ردة مجتمعية”، لأن وجود أماكن تفصل بين الجنسين في الفضاءات المتنوعة، اتجاه للحل الأسهل، واعتراف بالفشل في القضاء على المتحرشين، ناهيك عن التعارض مع التوجهات الحضارية للحكومة.
وأبدت نساء حاورتهن “العرب” خارج المنطقة تخوفهن من تعميم التجربة، وتوقعن أن يساهم هذا النوع من المبادرات في اتساع الفجوة بين أفراد الأسرة، ويزيد من التفكك الأسري بدلا من لم شمل العائلة من خلال التنزه. ويبدو إنشاء مساحات آمنة للنساء في الفضاءات العامة، حلا مؤقتا لمجابهة التحرش ويضاعف المشكلة وربما يزيدها سوءا، ويرسخ في الذهن أن الاختلاط سبب لوقوعه، ويعطي انطباعا بأن النساء لن يشعرن بالأمان إلا في هذه المساحة الضيقة، ما يشجع على التحرش بهن خارجها.
وتحفظت شيرين رياض (طبيبة) على المبادرة، وأعربت عن حزنها، لأنها كانت تفضل لو أنها جاءت لسبب مختلف غير الحماية من التحرش، ما يجعل احتياجات السيدات الأساسية توضع في ذيل أولويات الاهتمام بالأسرة. وأوضحت لـ”العرب” أن السعودية تحاول التحرر من الأفكار التقليدية، ومصر تتجه إليها، قائلة “أنا ضد الفصل بين الجنسين، والمفترض أن يعتاد الرجال والنساء على التواجد معا في الأماكن العامة”.
ويرى خبراء في علم الاجتماع ضرورة أن تأتي فكرة الأمان من المجتمع وليس من التدابير المؤقتة، وثبت أن الاختلاط يقلل التحرش، وكلما زاد الانغلاق زادت الانحرافات، وربما يصل الأمر إلى التحرش بالسيدات عندما يذهبن إلى حدائق مختلطة تحت مبرر “هي المخطئة لماذا جاءت إلى هنا، لديها حديقة السيدات”.
وكشفت الكاتبة سكينة فؤاد أن تخصيص مرافق بعينها تحت شعار “للنساء فقط” ليس في صالح المرأة ويظهرها دوما في شكل الطرف الضعيف الذي يجب حمايته.
وأوضحت لـ”العرب” أن الفصل يولد اضطرابا أكبر ويعزز التمييز بين الجنسين، ويصنع حالة عداء بينهما، ويصنع عازلا، ويعطي مؤشرات على أنه لا يمكن السيطرة على الخصوصيّة في حال التواجد مع الجنس الآخر، والحل الأمثل في نظرها “تفعيل القوانين وتشديدها وزيادة الوعي بتشكيل نهج تربوي ضد التحرّش”.
لذلك النساء في مصر لسن بحاجة إلى مساحات ضيقة آمنة، لكن بحاجة إلى أن تكون كل الفضاءات العامّة آمنة، يتحركن فيها بلا خوف من تحرش أو قلق من مضايقة من قبل رجل.
