العودة إلى "المحاكم الملية" دعوة يتبناها قس مصري رغم إخفاقها في الأردن

طرح يتعارض مع قواعد المواطنة ليقسّم المجتمع خدمة للمتطرفين.
الأربعاء 2021/01/13
دعوات قد تؤسس لـ"الانعزالية"

تُثير مطالبات المطران المصري منير حنا أنيس المتتالية بإنشاء محاكم كنسية، في استنساخ للتجربة الأردنية في حل مشاكل الطلاق والزواج بين المسيحيين، مخاوف في مصر من أن تؤسس هذه الخطوة للعزلة وأن تعزز أطروحات المتطرفين الذين يزعمون أن الكنيسة تُعد دولة داخل الدولة المصرية، علاوة على تعارض هذه المقاربة مع قواعد المواطنة.

القاهرة - تضطلع المؤسسات الكنسية في بعض الدول العربية بدور كبير في رسم الخطوط الاجتماعية، وفي سنّ الكثير من التشريعات والقوانين التي تنظم حياة التابعين لها، خاصة في أمور الأحوال الشخصية بما تتضمنه من زواج وطلاق وإرث وغيرها من المجالات.

ويبدو أن هناك عددا من رجال الدين المسيحيين يريدون الاستئثار بحق التقاضي الذي تحول إلى القضاء المدني منذ عقود طويلة، ويشعر هؤلاء أن المدنية تسحب من رصيدهم ونفوذهم على تابعيهم.

وأثارت مطالبة المطران المصري منير حنا أنيس بإنشاء “محاكم كنسية” على غرار الأردن لحل مشاكل الزواج والطلاق بين المسيحيين، جدلا واسعا يستحق التوقف عنده، لأن الفكرة تماست مع مشاكل مزمنة تؤرق الأسر المسيحية.

وأرجع المطران طرح فكرته إلى عدم توافق الكنائس المسيحية على قانون الأحوال الشخصية الموحد، فكل كنيسة من الكنائس، الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية، لها طلبات خاصة ما جعل مسألة القانون الموحد فكرة على الورق.

كان يمكن تجاهل دعوة منير حنا، باعتبارها رؤية شخصية، لكن ما يستدعي التوقف عنده، هو إصرار الرجل على ترديدها في أحاديث كثيرة، كما أنها جاءت من رجل دين يشغل منصب مطران الكنيسة الأسقفية في مصر والقرن الأفريقي ورئيس أساقفة إقليم الإسكندرية للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية، وتتبعها 29 كنيسة في مصر و145 كنيسة في القرن الأفريقي و7 كنائس في شمال أفريقيا.

تجربة محفوفة بالمشاكل

كمال زاخر: الدعوة تحمل مخاوف من التأسيس للانعزال على أرضية دينية
كمال زاخر: الدعوة تحمل مخاوف من التأسيس للانعزال على أرضية دينية

هل تعتبر المحاكم الكنسية طريقا ناجعا للآلاف من القضايا الأسرية العالقة منذ سنوات في المحاكم المدنية المصرية؟ وهل حققت تجربة المحاكم الكنسية الأردنية نجاحا لتكون مثالا يُحتذى به في حل المشاكل المتعلقة بالأحوال الشخصية للأقباط؟

بحسب آخر إحصائية أصدرها المعهد الملكي للدراسات الدينية عام 2015، يقدر عدد المسيحيين في المملكة الأردنية بنحو 239 ألف شخص، بينما يشكلون في مصر نسبة 10 في المئة من السكان، أي ما يقرب من عشرة ملايين مواطن.

والمحاكم الكنسية هي مجالس الطوائف غير المسلمة، وتسمى بالمحاكم الدينية أو المجالس الملية، ولا تتبع القضاء النّظامي في الدولة، وتنظرُ في قضايا الأحوال الشّخصية المُتعلّقة بأبناء طائفتها.

وفي الأردن، هناك المحكمة الكنسيّة الخاصّة بكل من طائفة الروم الكاثوليك وطائفة الروم الأرثوذكس وطائفة الأرمن والطائفة الإنجيلية الأسقفية العربية وطائفة اللاتين.

وفي حال لم تكن للطائفة قواعد أو مبادئ مكتوبة، أو كان هناك شك في المبادئ والقواعد، تطبق أسس أقرب طائفة لتلك التي ينتمي لها الطرفان المتنازعان.

وإذا وجدت طائفة دينية لا تملك مجلسا خاصّا للنظر في قضايا الأحوال الشّخصية الخاصة بأتباعها تكون الصلاحية للمحاكم النّظامية للبت في الأمر، بشرط اتّباع قواعد الإنصاف والعدل، في ضوء اعتقادات هذه الطائفة ومبادئها.

المتابع للشأن المسيحي في الأردن يلاحظ أن تلك المحاكم لم تسلم من سيطرة رجال الدين، فحياة المئات من المواطنين تتعطل نتيجة وقوفهم ضد إصدار نظام موحد لأصول التقاضي وإجراءاته أمام محاكم تسمّى مجالس الطوائف المسيحية، رغم ورود ذلك في قانون تم إصداره لتنظيم الإجراءات الشكلية بين 11 طائفة معترف بها رسميا.

ويشكو بعض مسيحيي الأردن من تغييب العدالة بين أبناء الطائفة المسيحية وبناتها، واحتكار رجال الدين لقرارات المحاكم الكنسية واجتهادات قضاة غير مؤهلين، ما يفضي أحيانا إلى تنغيص حياة العديد من الأسر المسيحية.

ولم يفلح رؤساء الطوائف في الاتفاق على توحيد رسوم رفع القضايا أمام المحاكم الكنسية، وتتفاوت مقارنة بالرسوم التي تدفع أمام المحاكم المدنية والشرعية في ما يتصل بقضايا الطلاق والنفقة مثلا، لعدم وجود نظام ثابت لها وخضوعها لتقدير كل قاض.

وقالت بسنت قاقيش، معلمة أردنية، لـ”العرب”، “الإجراءات في المحاكم الكنسية غير شفافة وطويلة الأجل وتكاليفها باهظة للغاية بالنسبة إلينا كسيدات معيلات”، فالقضية تكلف ما يقرب من 13 ألف دولار، وهو مبلغ كبير بالنسبة إليها مقارنة بالراتب الذي تحصل عليه والذي لا يتعدى 800 دولار شهريا.

وأضافت السيدة، وهي من طائفة الروم الأرثوذكس، التي تشكّل قرابة 60 في المئة من مسيحيي الأردن، أن جميع قضاة المحاكم الكنسية من الرجال باستثناء قاضية تم تعيينها في يونيو الماضي، ويتم تعيينهم من قِبَل قادة كلّ كنيسة وكونهم من الرجال فهم غير مؤهلين للحكم على الظروف المعيشية للمرأة.

ولا تنكر المعلمة الأردنية مميزات المحاكم الكنسية، خصوصا كونها تسمح بالطلاق لأسباب أخرى غير علة الزنا وتغيير الملة، وهو شيء إيجابي مقارنة بتعنّت كنائس أخرى، لكن تلك الميزة يعكرها توقف الحكم على رأي كلّ قاض وتقديره الذاتي.

روافد أسرية مضنية

في الوقت الذي يطالب فيه بعض مسيحيي الأردن بإلغاء المحاكم الكنسية، يلح المطران منير حنا على الحكومة المصرية بأن تسمح بإنشائها على غرار الأردن
في الوقت الذي يطالب فيه بعض مسيحيي الأردن بإلغاء المحاكم الكنسية، يلح المطران منير حنا على الحكومة المصرية بأن تسمح بإنشائها على غرار الأردن

تستمر معاناة الأردنيين بعد الحصول على الطلاق، فمن لديهم أطفال يخوضون معارك أخرى في تلك المحاكم بسبب حقّ حضانتهم، حيث تتبع الكنائس الحكم الإسلامي الذي يفيد بأن الآباء عليهم تحديد المسار الحاسم في تربية الأطفال وتعليمهم، ويتعرض الحكم لمساومات أمام المحاكم الكنسية على تحديد الطرف الذي له أحقية حضانة الأطفال.

أما موضوع العدالة الكنسية في تقسيم الإرث بين الرجل والمرأة، فله باع طويل أيضا، بيد أنَّ النساء المسيحيات يتعرضن إلى أحكام مختلفة في قضية الميراث؛ فبعض المحاكم تُطبِّق أحكام الشريعة الإسلامية في حلّ النزاعات الناشئة لتوزيع التركات، بينما يطبق البعض الآخر أحكام الديانة المسيحية.

وتشير بعض السيدات إلى إشكالية أخرى تخص المحاكم الكنسية وهي تواجد محاكم استئنافية خارج الأردن، فمثلا في الوقت الذي يحصُر القانون السابق لسنة 1938 عمل المحاكم الكنسية “بداية واستئنافا” لأتباع طائفة الروم الكاثوليك في الأردن، فإن المنتمين إلى الطائفة الأرثوذكسية يخوضون منازعات قضائية في بلدين، محاكم بداية في الأردن ومحاكم استئناف في القدس المحتلة.

ولا يختلف حال الفتاة هيا لؤي، التي تعمل في مجال المحاماة، عن حال أخريات ينتمين إلى الديانة المسيحية خسرن حقهن في الإرث بسبب الازدواجية في القرارات القضائية وعدم وجود  مرجعية موحدة للقضاء الكنسي الأرثوذكسي.

بعد مرور ست سنوات على دخولها في نزاع قضائي لنيل حقها في ميراث أبيها، استطاعت أن تحصل على قرار قضائي من محكمة الروم الأرثوذكس منحها الحق في حصة من الميراث، لكن شقيقها استأنف القرار أمام محكمة استئناف الروم الأرثوذكس في القدس وحصل على حكم يلغي الحكم الأول.

وإلى جانب افتقاد المعايير الموحدة للأحكام تشكو السيدة من طول أمد إجراءات المحاكمة، إذ يستغرق النظر في بعض القضايا سنوات قبل الفصل فيها، ما يلحق ضررا كبيرا بالمتقاضين ويضيع حقوقهم.

تلك المشكلات غيض من فيض مما تمر به الأسر المسيحية في الأردن، من هنا تعالت أصوات لإعادة النظر في بعض مواد الدستور التي تنص على لجوء المسيحيين إلى المحاكم الدينية.

وقدم ناشطون إصلاحيون مقترحا لإلغاء النصوص التي تتيح إنشاء محاكم شرعية أو المطالبة بإلغاء المحاكم الدينية وإعادة الولاية العامة للقضاء النظامي.

والمفارقة أنه في الوقت الذي يطالب فيه بعض مسيحيي الأردن بإلغاء تلك المحاكم، يلح المطران منير حنا على الحكومة المصرية بأن تسمح بإنشائها على غرار مثيلاتها في الأردن.

واقترح أن يتم تشكيل المحكمة من لجنة في كل طائفة تضم كهنة وأساقفة ورجال قانون، كي لا تترك الأحكام للآراء الشخصية، بل وفقا للقانون الكنسي لتصدر هي أحكام الطلاق وبعدها يتم إخطار الدولة لتوثيقه، وفي حال التشكيك بقرار المحكمة الكنسية يتم اللجوء إلى القضاء المدني.

قد تكون الفكرة نظريا جيدة، لأن هناك الآلاف من القضايا الخاصة بالمسيحيين متكدسة في محاكم الأسرة، غير أن التطبيق العملي صعب وفرص نجاحه قليلة، وفي ظل الحساسية لدى الكثير من الأقباط تجاه المحاكم الملية التي تحمل ذكريات سيئة استمرت فعليا لما يقرب من ثمانين عاما قبل إلغائها عام 1955.

وتأسس المجلس الملي بمصر في 1872، وتم حله بعدها بثلاثة أعوام، وأعيد تشكيله عام 1883، وكان حينذاك بمثابة محكمة للأحوال الشخصية للأقباط تنظر في منازعات الزواج والطلاق وغيرهما، وتشكيله يضم 12 عضوا و12 نائبا، يكونون الجمعية العمومية له، وينتخب الأعضاء والنواب 150 ناخبا، والبطريرك هو رئيس الاجتماع الانتخابي، كما تكون له رئاسة المجلس الملي ذاته.

تلك المحاكم انتهت إلى ما آلت إليه المحاكم الكنسية الأردنية، وكانت سببا في المعاناة التي مرت بها الأسر القبطية، مع الفارق أن مصر اتخذت خطوة الإلغاء بالفعل بعد قيام ثورة يوليو 1952، حيث

أصدرت الدولة القانون الرقم 462 لسنة 1955 الذي نص على إلغاء المحاكم الشرعية والمحاكم (المجالس) الملية وضمها للمحاكم العامة، مع إلغاء كل القوانين المتعلقة بترتيبها واختصاصها، وإلحاق دعاوى الأحوال الشخصية والوقف والولاية إلى القضاء العادي، وأصبحت المحكمة الوطنية هي المختصة في النظر في قضايا المسلمين والمسيحيين في دوائر خاصة لكل منهما.

وسبب نزع الصفة الشرعية عن المجالس لخصه المؤرخ الشهير الراحل عبدالرحمن الرافعي في كتابه “ثورة 23 يوليو”، أن مصر ورثت نظام تعدد جهات القضاء في مسائل الأحوال الشخصية عن الماضي، فقامت المحاكم الشرعية، وقام إلى جانبها القضاء الملي الخاص بالمسيحيين، فكان لكل طائفة قضاؤها الخاص وقوانينها الموضوعية، ما أدى إلى الفوضى والإضرار بالمتقاضين.

دعوة للتطرف الديني

----

يرى مراقبون أن الدعوة لإنشاء محاكم كنسية هي دعوة متطرفة ومن يطالب بها رجال دين يكافحون التوجه المدني الذي يسير إليه الأقباط والدولة ويذكرون أن البابا تواضروس، بابا الأقباط في مصر، صرح في أكثر من حديث بأنه لا يرتاح لاسم المجلس الملي فالأقباط يطالبون بالمواطنة وتجاوزوا العصر الذي يصنف المسيحيون كـ”ملة”.

وأكد الباحث القبطي كمال زاخر لـ”العرب”، أن “الدعوة تحمل إعلانا بفشل المنظومة الحالية في معالجة إشكاليات الأحوال الشخصية منذ إلغاء المحاكم الشرعية في خمسينات القرن الماضي، وربما كان الدافع لها أن من يتصدون للفصل في القضاء المدني ليسوا من المسيحيين، ومن ثم تُخفى عليهم القواعد الدينية الحاكمة للزواج وانقضائه، وتختلف في تفاصيلها الطوائف”.

وأضاف زاخر “هذه الدعوة تحمل مخاوف من التأسيس لفكرة الانعزال لفئة من الشعب على أرضية دينية، ما يتعارض مع الدعوة لقيام دولة مدنية حديثة، أحد دعائمها وحدة القضاء”.

يأتي ذلك تأسيسا على المادة الثالثة من الدستور، والتي تعطي للمسيحيين المصريين إدارة شؤونهم الدينية وفقا لشرائعهم بغير العودة إلى نسق المحاكم الشرعية والملية ودون الخروج عن مظلة القضاء المدني.

اللافت أن المطران منير حنا (صاحب الدعوة) انفصل بكنيسته عن الكنيسة الإنجيلية، ويستخدم مصطلح “شعب الكنيسة” خلال حديثه عن الأقباط، مع ما يحمله هذا المصطلح من دلالات تتعارض مع مبدأ المواطنة، وهو مصطلح يوحي بالانفصال والاستقلال، ويستخدمه البعض لتأجيج الفتنة بين المسيحيين والمسلمين في مصر.

وتحمل الدعوة خطورة إضافية تتمثل في أنها ترسخ للفكرة التي روج لها تيار الإسلام السياسي ورموزه طوال عقود، من أن الكنيسة بمثابة دولة داخل الدولة.

13