كوميكس: من 7 إلى 77

أول ما تتعلمه في درس الرياضيات هو الترميز. كيف تستطيع أن تعبر عن مفهوم رياضي بمعادلة تلتقطها العين وتفهمها بسهولة؟ كيف تستطيع أن تبني الحجة الرياضية من خلال خطوات تقود إلى البرهنة على النظرية؟
تقول، على سبيل المثال، نظرية فيثاغورس (كتابة): مجموع مربعي طولي ضلعي الزاوية القائمة مساوٍ لمربع طول الوتر. لا شك أنها تحتاج إلى بعض الخيال لفهم المقصود. لكن لغة الترميز تكتبها بلغة أبسط كثيرا وسهلة الفهمِ:
س2 + ص2 = ع2.
لو برهنا نظرية فيثاغورس (أو روينا حكاية البرهان جدلا)، من دون استخدام الترميز، لكانت المهمة صعبة جدا، أداءً أو فهمًا.
هكذا تلقيت العلاقة بين الرواية المكتوبة والرسوم المصورة (الكوميكس). الرواية المكتوبة مدخل إلى الخيال. الكوميكس تجسيد لهذا الخيال من خلال أدوات مركبة من الرسوم والتعبيرات وأدوات الترميز المختلفة والإشارات. الشريط المكتوب أعلى الصندوق تفسيري. فقّاعة الكلام التي ترتبط بسهم مع الشخصية تعني أنه يتحدث.
يستطيع المتحدث أن يصرخ أو يتلعثم من خلال الترميز. القصة القصيرة يمكن أن تلخص بشريط واحد من مجموعة قليلة من الصور. القصة الأطول يمكن أن تصبح مجلة بحجم متوسط. الرواية تحتاج إلى مجلة أو كتاب أطول. لكنها كلها تنتمي إلى الحس الدرامي نفسه في تقديم الحدث: الرسم بُغْيَة الترميز وإيصال الفكرة.
الكوميكس فكرة عبقرية في الثقافة والفن كما كانت الرموز والحروف فكرة عبقرية في الرياضيات. إنه محرر من الكثير من العقد التي صاحبت السرد القصصي والروائي. قد نقول استسهالا بأنه المرحلة الفاصلة بين النص المكتوب والسينما أو الرسوم المتحركة. إلا أن الكوميكس أهم وأكبر من هذا التوصيف البسيط؛ إنه جنس فني مستقل بحد ذاته لم يتردد مفكرو التصنيفات الفنية في إطلاق مسمى “الفن التاسع” عليه لينضم إلى قائمة الفنون الأساسية المعروفة (الفنون السبعة التقليدية + فن التلفزيون). سنجادل أيضا ونقول إنه قد يكون الفن الأول إذا أخذنا في الاعتبار الكوميكس الذي رسمه الإنسان الأول على جدران الكهوف.
الكوميكس مظلوم؛ ثمة خلط بينه وبين أجناس فنية أخرى، فهو يشبه الكاريكاتير ولكن لا علاقة له به شكلا ومضمونا. هل السينما والمسرح شيء واحد فقط لأن ما يجمعهما التمثيل؟ وهو مظلوم أيضا لأنه يعامل معاملة أفلام الكارتون. الكارتون شيء آخر لأن الكلام مسموع والتعابير واضحة والحركة متسلسلة ومفهومة. كل مربع في شريط الكوميكس هو مشهد مستقل ومعبر رغم جمود الحركة فيه. هل إذا أوقفنا حركة أفلام الكارتون سنفهم ما يجري؟
الكوميكس خلّاق؛ فأهم ما قدم من أشرطة في الصحف أو قصص في المجلات كان “مكتوبا” ككوميكس وليس رواية تم تحويلها إلى كوميكس. فنان الكوميكس، مثل البلجيكي هيرجيه الذي قدم لنا شخصية تان تان، كان يرسم السيناريو مباشرة. هو أديب لا يكتب إلا ما نراه من مشهدية وفقاعات حوارية مصاحبة للرسم.
الكوميكس كان ويبقى ضروريا. اليوم صار من السهل إنتاج أفلام يطير فيها البطل ويفعل المعجزات. ماذا كنا سننجز بخيالنا حين كانت تقنيات الكمبيوتر والسينما متخلفة وعاجزة عن تقديم مثل هذه الشخصيات؟ هل تتخيل فيلما من أربعينات القرن الماضي يرتدي فيه شخص جلد بطة وريشها ورأسها ليقنعنا بأنه بطوط المشاغب؟ كل قصص الحيوانات التي تتحدث وتتعارك وتقود السيارات كانت من نصيب الكوميكس أولا.
الكوميكس للجميع. كان يسعدني أن تحمل مجلة تان تان شعار “من 7 إلى 77”. تجاوزت الخمسين وأنا لا أزال أستمتع بقراءة الكوميكس كما كنت أفعل وأنا صبي حدث. زغلول أفندي وسمير وتهته وباسل وسندباد وسوبرمان والوطواط وريك هوشيه لا يزالون أحياء في ذاكرتي. الكوميكس ليس حكرا على الأطفال؛ نعم إنهم يحبونه لأنه يبسّط لهم تعرفهم على الأدب، لكنه للكبار أيضا، فرواية “بيرسوبولس” المصورة التي تروي السيرة الذاتية للكاتبة مرجان ساترابي في عالم التحول بين عصر الشاه وعهد الآيات في إيران ما كانت لتثير الاهتمام والمتابعة أنفسهما لو كانت نصا فقط.
الكوميكس يغير طريقة التفكير وتلقّي الأمور. كنت أستطيع أن أميز بين زملاء الدراسة، من كان يقرأ الكوميكس ومن لم يكن يقرأه (أو لا يقرأ أي شيء بالأساس). ثمة لمعة تراها في من يقرأ الكوميكس شبه مفقودة عند قراء النصوص فقط، هي لمعة تصاحبهم مدى الحياة. تستطيع أن ترصد مثقفا يقرأ النصوص فقط ليشطح بالخيال إلى اللاموضوعية، وآخر عمليًّا ومباشرا وكأنه يرسم مشهدية كوميكس في خياله قبل أن يتحدث؛ كأنه الفرق بين كاتب يريد أن يكتب صفحة ومهندس يريد أن يرسم تخطيطا أو يكتب معادلة.