محمود محيي الدين فلاح أصيل حاضر غائب قد يعود رئيساً لوزراء مصر

نائب رئيس البنك الدولي يتوقع أن يشهد العالم أزمة مالية طاحنة تتجاوز أزمة عام 2008، نتيجة انفجار وشيك لفقاعة تداول العملات الافتراضية.
الأحد 2018/05/27
قد يصنع القرار في مصر

البعض في مصر بقي ليكافح وسط طوفان من متحدي الكفاءات. إذ يقال إن مصر من الدول المليئة بالكفاءات، لكن المشكلة أن عددا كبيرا من مؤسساتها الرسمية لا تعتمد عليهم، ولا تستفيد جيدا منهم. والبعض الآخر أصابه الإحباط وانزوى حتى طواه النسيان. لكن هناك فئة ثالثة فضلت الخروج أو الهجرة لتحقيق طموحاتها في مكان يضع الكفاءة، ولا شيء غيرها، كمعيار لتولّي المناصب. ويتعامل هؤلاء مع موطنهم الأصلي دون أن تفارقهم همومه.

محمود محيي الدين، نائب رئيس البنك الدولي، أحد أفراد الفئة الثالثة، يراقب أحوال مصر الاقتصادية جيدا. وبات يُطرح اسمه عند كل كلام يتردد بشأن أي تعديل وزاري مرتقب، ليتصدر احتمال توليه رئاسة مجلس الوزراء قائمة التكهنات، بسبب خبراته الاقتصادية الكبيرة.

بورصة الترشيحات

هو أكاديمي معروف، وله خبرة طويلة بمشاكل الاقتصاد المصري. كما أن تنشئته السياسية جعلته محط الأنظار دوما. فهو سليل عائلة محيي الدين الشهيرة، التي شارك أحد أفرادها، وهو خالد محيي الدين في مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952. وينحدر من العائلة ذاتها الراحل فؤاد محيي الدين الذي تولى رئاسة الوزراء في بداية حكم مبارك.

ارتفعت فرص محيي الدين، عقب الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية مارس الماضي، وفاز فيها الرئيس عبدالفتاح السيسي، وبدأ اسم محيي الدين يعود إلى بورصة الترشيحات لتقلد منصب رئيس الحكومة في الوزارة المقبلة، لأن أفكاره تتسق مع المرحلة الحالية التي تنفذ فيها القاهرة برنامجا طويلا للإصلاح الاقتصادي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وهو ما يجعله محل ثقة للإشراف على برنامج الإصلاح الذي يرعاه الرئيس السيسي.

محاضرة محيي الدين أمام غرفة التجارة الأميركية في الفترة الأخيرة يتحدث فيها عن رؤية البنك الدولي لاستراتيجية التنمية المستدامة 2030، ويطرح فكرة تأسيس صندوق سيادي مصري لإدارة الأصول
محاضرة محيي الدين أمام غرفة التجارة الأميركية في الفترة الأخيرة يتحدث فيها عن رؤية البنك الدولي لاستراتيجية التنمية المستدامة 2030، ويطرح فكرة تأسيس صندوق سيادي مصري لإدارة الأصول

يملك محيي الدين قدرة كبيرة على الإقناع، وقد يلجأ بلغته العربية الرصينة إلى استخدام أمثال شعبية مستوحاة من حياة الفلاحين، متأثرا بموطن ميلاده في كفر شكر بمحافظة القليوبية في 15 يناير 1965.

يعتز بأنه فلاح مصري أصيل. لا يتورع عن لبس الزي الفلاحي “الجلباب” عندما يقصد بلدته والتي يحرص على زيارتها في كل مرة يزور فيها القاهرة قادما من واشنطن. يلتقي بفلاحي قريته في ديوان العائلة.

يعشق الاستماع إلى آرائهم ومعاناتهم، ويعتبرهم نبض الوطن الذي يئن من كثافة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. هؤلاء وأمثالهم في قرى مصر البعيدة عن القاهرة هم المقياس الحقيقي للشارع؛ الترمومتر الذي يُمكّن أي خبير من معرفة جدوى ومردودات الإصلاحات الاقتصادية، على المستوى السلبي والإيجابي.

ألقى محيي الدين مؤخرا محاضرة أمام غرفة التجارة الأميركية بالقاهرة. تحدث فيها عن رؤية البنك الدولي لاستراتيجية التنمية المستدامة 2030. وقد طرح فكرة تأسيس صندوق سيادي مصري لإدارة الأصول غير المستغلة، وهو ما اعتبره الكثيرون محاولة تمهد لعودته إلى مصر وتولّي منصب رسمي كبير فيها، لأن هناك حكومة جديدة على وشك أن يعلن الرئيس السيسي تشكيلها قريبا.

يقول إن جميع الدول التي تشهد اكتشافات غاز كبيرة، مثل مصر مؤخرا، تسعى لتأسيس صناديق استثمار سيادية لحماية الأجيال المقبلة، على أن يتم استثمار أموال هذه الصناديق بصورة احترافية تضمن حقوق هذه الأجيال في الثروات الطبيعية.

وقد اكتشفت شركة إيني الإيطالية قبل عامين أكبر حقل للغاز في البحر المتوسط قبالة مدينة الإسكندرية في شمال مصر، ويعد من أكبر عشرة حقول غاز في العالم، ودخل مرحلة الإنتاج في العام الحالي.

وأطلقت القاهرة مطلع شهر مايو الماضي صندوقا سياديا برأسمال 11 مليار دولار، يستهدف اكتشاف الفرص الاستثمارية في البلاد، وتعزيز معدلات النمو في الأصول غير المستغلة، وأعلنت المملكة العربية السعودية رغبتها في المشاركة في رأس مال هذا الصندوق.

ترعرع محيي الدين في ظل نظام مبارك منذ تخرجه في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1986 وكان الأول على دفعته، وسافر لنيل درجة الماجستير في تحليل السياسات الاقتصادية من جامعة يورك بإنكلترا عام 1990، ثم نال درجة الدكتوراه في اقتصاديات التمويل في نفس الجامعة، وكانت أطروحته حول “سياسات التحرير المالي في الدول النامية”.

خلال سنوات سفره للخارج في أثناء الدراسة لم تنقطع صلته بمصر، حيث كان عاشقا لمهنة الصحافة، ويعدّ بصورة منتظمة تقارير اقتصادية كانت تنشرها صحيفة الأهرام المصرية، إلى جانب بعض الدراسات الموسعة التي نشرتها الصحيفة في كتيبات، وتربط في غالبيتها بين تطورات الاقتصاد الدولي وما يجري في مصر على الصعيد الاقتصادي.

ركلة اقتصادية لأعلى

لعل تلك الكتابات كانت سببا في وضع محيي الدين تحت المجهر، وبدأت الأضواء تسلط عليه وتتبع خطاه العديد من وسائل الإعلام، وبدأ نجمه يلوح في الأفق منذ عمله كمستشار اقتصادي بمكتب يوسف بطرس غالي عندما كان وزيرا للدولة للشؤون الاقتصادية عام 1996.

أما يوسف بطرس غالي، الهارب في لندن حاليا، فهو مطلوب للمثول أمام محاكم مصرية بسبب ارتكابه تجاوزات خلال فترة عمله كوزير للمالية، وهو ابن شقيق بطرس بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، وكان يوسف قريبا من السلطة ومن دائرة جمال مبارك، ما جعل مدرسته مصنعا للنجوم، الأمر الذي حدث مع محيي الدين. بدأ يتدرج في المناصب حتى أصبح أصغر رئيس للجنة الاقتصادية في الحزب الوطني الديمقراطي، الحزب الحاكم خلال حكم مبارك.

عندما بدأ اسم محيي الدين يتردد كخبير اقتصادي كبير، رشحته بعض الدوائر مبكرا لتولي منصب وزير في الحكومة. وذكر الكاتب والصحافي مكرم محمد أحمد واقعة تكشف عن تميزه المبكر، حيث عرض على مبارك ترشيح محيي الدين لتولي حقيبة الاقتصاد مباشرة، وعندما سأل عن عمره ووجده لم يتجاوز الـ35 عاما، رفض وقال اتركوه، لأن هناك أناسا لو عرفوا أننا سوف نعدّه لحقيبة وزارية لتخلصوا منه معنويا، في إشارة إلى استهدافه، وطالب أن يكون في الظل مؤقتا إلى حين تأتي الفرصة المناسبة.

محيي الدين يقول لـ"العرب" إن مصر تحتاج إلى رفع معدل الادخار إلى حوالي 25 بالمئة لتحقيق معدلات النمو المستهدفة. فالمعدلات في آخر عامين تراوحت بين 5 بالمئة و6 بالمئة، وهى غير كافية لتعزيز النمو الاقتصادي. ويشير إلى أن تجربة الصين وفيتنام كانت تعتمد على تمويل الاستثمار من خلال المدخرات المحلية، وقد حققت نجاحا ملموسا

بدأت الأضواء تتجه أكثر نحو أصغر وزير تقلد حقيبة وزارية خلال فترة حكم مبارك، عندما أدّى محيي الدين اليمين الدستورية كوزير للاستثمار عام 2004، وهو في سن الـ39 عاما.

لفتت كفاءته الأنظار إليه في مراحل مختلفة. امتلك أفكارا غير تقليدية وجرأة كبيرة، جعلتاه محل استهداف من الكثيرين. أطلق مبادرة صكوك الملكية ولاقت رفضا شعبيا، وكانت تستهدف تطوير شركات قطاع الأعمال العام التابعة للحكومة من خلال طرح صكوك على الشعب يشتريها الأفراد وبموجب حصيلة هذه الصكوك يتم تطوير الشركات الخاسرة، ومن خلالها يصبحون ملاكا للمال العام.

بعد موجة الرفض العاتية لجأت الحكومة إلى تقريب الفكرة للمواطنين من خلال السينما، وتم إنتاج فيلم “عايز حقي” بطولة الفنان هاني رمزي، وتدور أحداثه حول مواطن يرغب في الزواج ولا يملك مسكنا، ووجد الحل عندما كان يقرأ دستور البلاد الذي ينص على أن جميع المصريين شركاء في ملكية أصول البلاد.

مع أن ثمة جهودا كبيرة بذلت، إلا أنه تم وأد الفكرة، لكن تقبلها المصريون حاليا من خلال طرح أسهم هذه الشركات في البورصة، وبدأ الأفراد والمؤسسات المالية أيضا يترقبون توقيت طرحها بهدف المضاربة عليها.

كانت بطانة جمال مبارك بقيادة مايسترو ما يعرف بالتوريث في مصر، رجل الأعمال أحمد عز، لا ترغب في وجود نجوم حول الرئيس المنتظر، ومُنح محيي الدين ركلة للأعلى في 30 أكتوبر 2010 وعين مديرا منتدبا للبنك الدولي بترشيح من القاهرة، بعدها بنحو 85 يوما اشتعلت ثورة 25 يناير 2011 ضد نظام مبارك وأطاحت به، ولم يكن محيي الدين ليفلت من مقصلة الثورة لولا خروجه من مصر قبل اندلاعها. كانت تلك الركلة باب السعد له، كما يقولون في مصر.

السفر وقاه من الانتقادات والاتهامات التي طالت رموز نظام مبارك. فقد كان محيي الدين مسؤولا عن الكثير من السياسات الاقتصادية في ذلك الوقت. وقد قبل العمل مع نظام كانت علامات الفساد فيه غير خافية على المواطنين. لذلك فابتعاده جاء في توقيت مثالي له.

كارثة اقتصادية عالمية متوقعة

يحذر من الكارثة
يحذر من الكارثة الاقتصادية

ابتعاده عن مصر، لم يجعل الأضواء تنحسر عنه، وربما جرى العكس، ففي كل أزمة اقتصادية تواجهها البلاد تتجه العيون نحو محيي الدين لتلمس الحل. لم يبخل بالنصيحة. يقدمها للمسؤولين والإعلاميين. وازدادت أهميته عندما تبوّأ منصبا مهما في البنك الدولي، وامتلك مروحة واسعة من الخبرات الاقتصادية.

ازدادت التكهنات حول محيي الدين بعد تكرار أحاديثه عن الاقتصاد المصري، حيث كان في فترات سابقة يفضل الحديث عن الاقتصاد العالمي فقط، إلى درجة أنه كان يؤكد دوما للصحافيين المصريين أن أحاديثه تتعلق بالأوضاع العالمية وليست خاصة بالحالة المصرية.

يرى أن مصر في حاجة إلى تحقيق معدل نمو 7 بالمئة سنويا حتى يشعر المواطن بتحسن ملموس في معيشته، كما أن المعدلات التي تحققت خلال السنوات الماضية عند مستويات 3 بالمئة و4 بالمئة غير كافية لإحداث تحسن ملموس في حياة المواطنين.

يقول محيي الدين لـ"العرب"، إن مصر تحتاج إلى رفع معدل الادخار إلى حوالي 25 بالمئة لتحقيق معدلات النمو المستهدفة. فالمعدلات في آخر عامين تراوحت بين 5 بالمئة و6 بالمئة، وهى غير كافية لتعزيز النمو الاقتصادي. ويشير إلى أن تجربة الصين وفيتنام كانت تعتمد على تمويل الاستثمار من خلال المدخرات المحلية وحققت نجاحا ملموسا.

وطرح خلال لقائنا معه في واشنطن، مفهوما جديدا على الحكومة المصرية، قائلا “على الحكومة أن تتجه إلى تكوين مدخرات”، وهو اتجاه غريب على مصر، حيث لا تدخر الحكومة أية أموال، وكان يقصد بذلك تدشين صناديق سيادية لأنها تعتبر نوعا من الادخار في أوعية مالية كبيرة.

محيي الدين يشغل حاليا منصب نائب رئيس البنك الدولي، ويراقب منذ سنوات أحوال مصر الاقتصادية جيدا. واسمه بات يتصدر قائمة التكهنات لموقع رئيس مجلس الوزراء
محيي الدين يشغل حاليا منصب نائب رئيس البنك الدولي، ويراقب منذ سنوات أحوال مصر الاقتصادية جيدا. واسمه بات يتصدر قائمة التكهنات لموقع رئيس مجلس الوزراء

توقع محيي الدين أن يشهد العالم أزمة مالية طاحنة تتجاوز أزمة عام 2008، نتيجة انفجار وشيك لفقاعة تداول العملات الافتراضية، ومن أشهرها عملة “بيتكوين”، حيث أخذت المضاربة عليها في التوسع بشكل مقلق للغاية، وسط إقبال كبير عليها من جانب شرائح مختلفة. وفي ظل صعوبة رقابتها وعدم اتجاه البنوك المركزية لإصدار عملات مثيلة تلبي طموحات فئات الشباب وتحت رقابتها لحماية المتعاملين في تلك السوق الرائجة، أخذت المخاطر في التوسع بصورة خطيرة.

وانضم بول كروغمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، حاله حال محيي الدين، إلى المتنبئين باقتراب الأسواق الناشئة من أزمة مالية جديدة، وقال إن “الوضع الحالي يشبه الأزمة المالية الآسيوية في تسعينات القرن الماضي”، فقد هبطت أسهم الدول النامية بنسبة 59 بالمئة وقامت الحكومات برفع أسعار الفائدة إلى مستويات مرتفعة للغاية.

وكتب كروغمان في تغريدة له مؤخرا، يقول “يمكن تصور حدوث مثل تلك الأزمة، حيث تهبط عملات الأسواق الناشئة، ما يزيد من ديون الشركات بشكل كبير، ويضغط على الاقتصاد ليتسبب في المزيد من الهبوط في العملات”.

وشْك حدوث أزمات اقتصادية تجتاح دول كثيرة من العالم، يمنح محيي الدين فرصة استدعائه إلى القاهرة على سبيل التشاور حاليا. وربما يكون الباب الذي يعود منه للاستقرار بمصر، في منصب رسمي أو غير رسمي. وفي الحالتين قد يكون شريكا في صناعة القرار الاقتصادي في الفترة المقبلة.

8