الجزائر: العقيد يحياوي يعري فشل حزب جبهة التحرير
شرعت جريدة الشروق اليومي الجزائرية هذا الأسبوع في نشر حلقات الحوار الحصري الذي أجراه الإعلامي الجزائري الطاهر يحياوي مع العقيد محمد الصالح يحياوي الذي شغل الكثير من المناصب المحورية الحساسة في الدولة الجزائرية، وفي مقدمتها منصب عضو مجلس الثورة مباشرة بعد الإطاحة بالرئيس الجزائري أحمد بن بلة من قبل العقيد هواري بومدين وجمـاعته وذلك بواسطة انقلاب عسكري، ومن ثم منصب قائد أكاديمية شرشال العسكـرية، وبعدئذ منصـب المسؤول التنفيذي على جهاز حزب جبهة التحرير الوطني.
إلى جانب تقلده هذه المناصب كان العقيد يحياوي المرشح الأكثر حظا لخلافة الرئيس هواري بومدين بعد وفاته جنبا إلى جنب المرشح الأقوى الآخر وهو عبدالعزيز بوتفليقة، ولكن ألاعيب السيرك السياسي والأمني الجزائري قد أطاحت بكليهما، مما فسح المجال لمرشح الأمن العسكري العقيد الشاذلي بن جديد للانقضاض على كرسي الرئاسة بقصر المرادية.
وفي الواقع فإن محاورة شخصية عسكرية، لعبت أدوارا محورية في جزء مهم من مرحلة الاستقلال الوطني الجزائري مثل شخصية محمد الصالح يحياوي، تكتسي أهمية استثنائية وتفرض طرح الأسئلة التالية: لماذا يعود هذا الرجل العسكري تكوينا وممارسة للسلطة مجددا إلى النبش في تاريخ حزب جبهة التحرير الوطني في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، علما أن هذا الحزب لم يكن طوال مرحلة الكفاح الوطني المسلح ضد الاحتلال الفرنسي حزبا سياسيا محدد العقيدة الفكرية بالمعنى الدقيق لكلمة حزب، بل كان مجرد جبهة وطنية مؤسسة على عقيدة الكفاح العسكري تتحرك في فضائها فسيفساء التيارات السياسية المتباينة في توجهاتها الأيديولوجية في تلك المرحلة التاريخية؟
لا شك أن اختيار العقيد محمد الصالح يحياوي بالذات لتقديم شهادته عن بعض السلبيات الكبرى التي تميز بها حكم الرئيس هواري بومدين ومنها تجميده لحزب جبهة التحرير الوطني ومحاولة استخدامه كبوق دعاية لصالحه، وكذا تخلصه العنيف من الشخصيات الوطنية أمثال قايد أحمد وغيره، أمر ملفت للنظر فعلا. ولا شك أيضا أن مثل هذا النوع من الحوارات يدخل ولو بشكل غير مباشر في إطار نزع هالة التبجيل على مرحلة بومدين وعلى ما يسمى بالتجربة الاشتراكية البومدينية التي طويت صفحاتها في عهد حكم الشاذلي بن جديد ودفنت نهائيا في عهد الرئيس بوتفليقة.
إن هذا النقد لبومدين أمر تريده جماعة الرئيس بوتفليقة وتستثمره في سعيها لإظهار مرحلة حكمه بأنها الأفضل في تاريخ الاستقلال الجزائري. ويمكن أن يفسر هذا كله الأسباب المضمرة لتغييب بومدين في المشهد السياسي منذ وفاته، وكذا عدم ذكر الرئيس بوتفليقة نفسه لمساهمات هذا الرئيس السابق في أي خطاب من خطبه على مدى 18 سنة من حكمه، والذي لم يواصل برنامجه السياسي الذي كان قد سانده عندما كان في عهده وزيرا للشبيبة والرياضة وللخارجية.
إقصاء هواري بومدين لأي شكل من أشكال التعددية السياسية طوال مرحلة حكمه وفر المناخ لهيمنة آليات حكم الحزب الواحد ولسيطرة الجيش والأمن العسكري
يبدو واضحا أن العقيد محمد الصالح يحياوي يطرح في حواره المذكور آنفا مشكلة مركزية عانى ولا يزال يعاني منها حزب جبهة التحرير الوطني منذ انتهاء مرحلة الكفاح المسلح في عام 1962 إلى يومنا هذا، وتتمثل في ترسيم هذا الحزب كجهاز حكم سلطوي والحيلولة دون تحوله إلى قائد روحي للشعب الجزائري.
وفضلا عن هذا، فإن إقصاء الرئيس بومدين لأي شكل من أشكال التعددية السياسية طوال مرحلة حكمه قد وفَر المناخ لهيمنة آليات حكم الحزب الواحد ظاهريا ولسيطرة الجيش والأمن العسكري جوهريا. وهكذا أدى المناخ المترتب عن هذا الانغلاق السياسي إلى اندلاع تمردات متعددة في فترات مختلفة، تكللت في آخر المطاف بانفجار الحرب الدموية المدعوة بحرب العشرية الدموية.
من الملفت للنظر هو أن هذه الصيغة الأحادية لطبيعة الحكم في مرحلة الاستقلال الجزائري لم تأت من فراغ، وليست أيضا وليدة حركة التحرر الوطني فقط بل هي نابعة أصلا من البنية العميقة للثقافة الجزائرية البطريريكية وذيولها الدينية المتخلفة، التي يمكن اعتبارها جميعا بمثابة الجذر التاريخي الذي تتفرع عنه الآن مختلف تجليات نزعة طغيان الحكم الفردي التعسفي اللاغي للجماعية في المظاهر الخارجية للمشهد الجزائري العام وفي النسيج الداخلي المضمر للحياة السياسية والثقافية والاجتماعية.
وفي مفصل آخر من الحوار يؤكد يحياوي أن هدف بومدين من حزب جبهة التحرير هو “حشد التأييد الشعبي” لقراراته وتسويق حكمه، وهذا يعني أنه قد جعل هذا الحزب جهازا دعائيا له بدلا من جعله قائدا روحيا للشعب.
وفي هذا السياق يخصص محمد الصالح يحياوي في حواره مساحة لما يدعوه بمحاولة الرئيس بومدين تأثيث هياكل حزب جبهة التحرير الوطني بالمثقفين والمفكرين، ولكن معطيات الواقع تناقض ما يذهب إليه العقيد يحياوي في هذا الخصوص حيث أن حزب جبهة التحرير الوطني قد استبعد في ذلك الوقت، من هياكله التنظيمية ومن مؤسساته القاعدية والعليا، أي مثقف وطني نقدي يختلف عقائديا ووجهة نظر سياسية أو ثقافية مع النظام الحاكم حينذاك، وبسبب هذا لم يقم حزب جبهة التحرير الوطني حوارا متفتحا مع المثقفين والسياسيين الذين لهم عقائد فكرية وتصورات مختلفة للدولة الوطنية أمثال مالك بن نبي، ومحمد حربي، وعبدالحميد بن زين، وكاتب ياسين وكريم بالقاسم ومحمد بوضياف وأحمد مازرنة وعمار أوزكان ومصالي الحاج وآيت أحمد وغيرهم كثير.
بناء على ما تقدم فإن وجه الاختلاف بين حزب جبهة التحرير الوطني لمرحلة بومدين وبين حزب جبهة التحرير الوطني لمرحلة الشاذلي بن جديد وبين حزب جبهة التحرير الوطني لمرحلة عبدالعزيز بوتفليقة، الرئيس الفعلي لهذا الحزب في الوقت الراهن، هو في الفرعيات الخارجية الشكلية، أما في العمق فإن هذا الحزب قد بقي في كل هذه المراحل مجرد واجهة خـارجية شكلية لتبـرير وتكريس الحكم الفردي الذي طمس ولا يزال يطمس مشروع الدولة التعددية المتحضرة في الفكر والسياسة والممارسة للحياة في المجتمع الجزائري.
كاتب جزائري