دانييل داي لويس يودع الفن السابع وهو في القمة

كان نبأ اعتزال الممثل البريطاني (من أصل أيرلندي) دانييل داي لويس (60 عاما) مفاجئا ومدهشا بل وصادما، أثار التساؤلات في أوساط صناعة السينما، داخل هوليوود وخارجها. فهذا ممثل غير عادي لا يشبه أحدا ولم يكن يحاكي أحدا أو يسير على خطى سابقيه بموهبته المتفجرة وهي موهبة من نوع خاص.
يشبهّه الكثير من النقاد في بلده بالممثل الإنكليزي الكبير الراحل لورانس أوليفييه، فهو مثل أوليفييه في جانب أساسي يتمثل في إيمانه بالمسرح، فقد ظل لفترة طويلة ينتقل بين السينما والمسرح، كما شارك في كثير من الأعمال الدرامية التي أنتجت للشاشة الصغيرة. لكن المفارقة أن دانييل داي لويس لم يكن في الأصل يودّ أن يصبح ممثلا رغم أن والدته كانت ممثلة وكان والده شاعرا مرموقا، فقد كان يميل في طفولته وصباه إلى الأعمال البسيطة مثل النجارة والحفر على الخشب والحرف اليدوية، ولم يكن داي لويس متفوقا في الدراسة، لكنه نجح فيما بعد في الالتحاق بمدرسة مسرح أولد فيك في بريستول، وكان أول دور حصل عليه في السينما دور صغير في فيلم “غاندي” (1982).
اشترك دانييل داي لويس مع لورانس أوليفييه وأنطوني هوبكنز (وهما من عمالقة التمثيل الإنكليزي) في فيلم “باونتي” (1984)، وكان يمثل أيضا في هذا الفيلم أمام ميل غيبسون وليام نيسون، وهو الفيلم الذي يروي قصة التمرد الشهير على ظهر السفينة باونتي، في إعاة إنتاج للفيلم الشهير “تمرد على باونتي” الذي قام ببطولته مارلون براندو عام 1962 واشترك في إخراجه لويس مايلستون وكارول ريد، وكان هذا الفيلم بدوره إعادة إنتاج لفيلم بالعنوان نفسه من عام 1935، بطولة كلارك غيبل وتشارلز لوتون.
ليس من المعروف سبب قرار دانييل داي لويس المفاجئ بالاعتزال وهو في قمة عطائه وقدرته على الإبداع بعد أن اكتسب خبرة كبيرة من خلال الأدوار المتنوعة التي قام بها عبر نحو أربعين عاما
بدايات الشهرة
ليس من المعروف سبب قرار دانييل داي لويس المفاجئ بالاعتزال وهو في قمة عطائه وقدرته على الإبداع بعد أن اكتسب خبرة كبيرة من خلال الأدوار المتنوعة التي قام بها عبر نحو أربعين عاما: زعيم العصابة، عضو الجيش الجمهوري الأيرلندي، الكاتب والممثل المشلول، الطبيب التشيكي المغامر، محارب الموهيكان، الرأسمالي الباحث عن النفط، المحامي العاشق، الرئيس الأميركي لينكولن.. الخ.
غير أن دانييل داي لويس عرف الشهرة الحقيقية ليس من خلال الأفلام “التاريخية” وأفلام المغامرات الكبيرة مثل “آخر رجال الموهيكان” بل بفيلم بريطاني من الإنتاج الصغير ظهر عام 1985 هو فيلم “مغسلتي الجميلة” وكان عملا واقعيا يعتمد على سيناريو البريطاني من أصل باكستاني حنيف قريشي ومن إخراج ستيفن فريرز، تدور أحداثه في أحد أحياء جنوب لندن التي يتنشر فيها المهاجرون الباكستانيون والهنود، وكان داي لويس يظهر في الفيلم وهو يصبغ الخصلة الأمامية من شعره باللون الأشقر، على غرار “البانك”، ويلعب دور شاب شاذ جنسيا يرتبط بصداقة مع الشاب الباكستاني الذي يدير مغسلة عمومية لحساب عمه.
قفز داي لويس قفزة كبيرة بعد أن حصل على فرصة القيام بدور “كريستي براون” في فيلم “قدمي اليسرى” (1989).. وبراون هو الكاتب والشاعر الأيرلندي الذي ولد مشلولا شللا كاملا تقريبا فيما عدا قدمه اليسرى، وهي الجزء الوحيد من جسمه الذي كان يمكنه تحريكه. وقد اقتضى الاستعداد للدور أن يستخدم داي لويس ويتحرك لفترة طويلة على أحد مقاعد المعاقين، ولم يكن يغادر المقعد حتى بعد انتهاء تصوير المشاهد المختلفة، مصرّا على التقمص التام لدور الشخص المشلول، وكان يطلب من مساعدي الإخراج تحريكه من مكان إلى آخر، مما تسبب في سقوطه وكسر ضلعين من أضلاعه.
رغم ذلك يقول داي لويس في إحدى المقابلات القليلة التي أجريت معه إنه لا يحب الاستعداد المسبق للدور لأنه يرى أن الممثل إذا ما أخذ يحاكي الشخصية ويردّد حواراتها ويمثّل حركاتها كثيرا فإنه سيفقد القدرة على الأداء التلقائي أمام الكاميرا. ويضيف أنه لا يحب الإدلاء بالمقابلات الصحافية في سياق الترويج للأفلام التي يقوم ببطولتها، موضحا أنه إذا ما شاهد الصحافي الممثل وعرف لون جوربه، فإنه سيتذكر هذا عندما يشاهد أفلامه فيما بعد، مما يصبح بمثابة عائق أمام خياله.
يقيم دانييل داي لويس حاليا في منزل كبير من منازل الطبقة الوسطى بالريف الأيرلندي مع ولديه الاثنين وزوجته الأميركية ربيكا ميللر، وهي ابنة الكاتب المسرحي آرثر ميللر التي التقاها في نيويورك عام 1996 عندما كان يصوّر دوره في فيلم “البوتقة” المقتبس من مسرحية ميللر.
كثيرا ما أبدى داي لويس تبرمه ممّن يتحدثون كثيرا عن المشاكل التي يواجهها أثناء الاستعداد للقيام بأدواره قبل التصوير، مؤكدا أنه لا يعاني من أي مشاق بل يجد هذه المرحلة أكثر مراحل العمل السينمائي تحقيقا للمتعة، لكن هذا لا يمنع من أنه كان قد أبدى رغبته أكثر من مرة، في اعتزال التمثيل، والاستمتاع بحياة هادئة، وها هو قد اتخذ قراره أخيرا.
|
فيلم كونديرا
لكن داي لويس برز كممثل كبير يمكنه القيام بالأدوار المركبة بعد قيامه ببطولة الفيلم الأميركي “الخفة اللامحتملة للوجود” (1988) أمام الممثلة الفرنسية جوليت بينوش عن رواية الكاتب التشيكي ميلان كونديرا ومن إخراج فيليب كوفمان. وقد لقي هذا الفيلم اهتماما عالميا كبيرا ليس فقط بسبب الرواية الشهيرة للكاتب التشيكي المنشق وقتها، بل لأنه كان أول فيلم “أميركي” يروي بالتفصيل ومن خلال الوصف الذي كتبه كاتب تشيكي ما وقع في براغ في 1968 مع غزو القوات السوفييتية البلاد، وفيه يقوم داي لويس بدور “توماس” وهو جراح أعصاب شاب ناجح يبشر بمستقبل باهر ولكنه لا يبدو منسجما مع المزاج العام السائد من حوله، فهو أقرب إلى الهوس الجنسي. تأسره لفتة صغيرة أو تفصيلة دقيقة في جسد أيّ امرأة. يقتنص كل الفرص المتاحة، وهي كثيرة، للحصول على المتعة. مبدأه ألاّ يقضي ليلة كاملة في أحضان امرأة معينة، لكي يتفادى الوقوع في الحب. أما علاقته الجسدية المثلى فهي مع “سابينا” (بينوش) تلك الرسامة المتمردة التي تعكس لوحاتها غضب جيل الستينات. علاقتهما ليست علاقة استمتاع مجرد، بل تربطهما مشاعر وأحلام مشتركة.
يذهب توماس ذات يوم لإجراء جراحة عاجلة في بلدة ريفية صغيرة. يلتقي هناك بفتاة تدعى “تيريزا” تختلف تماما عن “سابينا” ويتصور أن لقاءه العابر بها قد انتهى. ولكنها تلحق به في مسكنه في براغ. ولا تصبح هي فقط أول امرأة تقضي ليلة كاملة معه، بل وتقيم أيضا إقامة مستمرة. وفي لحظة اعتراف بالحب، يقرر الاثنان الزواج. ولكن توماس يستمر في غزواته النسائية المتعددة، وفي لحظة مواجهة عنيفة بينهما، تترك تيريزا المنزل في نفس وقت دخول الدبابات السوفييتية إلى العاصمة.
ينقلب كل شيء بسرعة، وتحمل تيريزا الكاميرا، تلتقط كل ما تراه أمامها من صور الغزو والمقاومة، فتعتقل ويتم استجوابها بقسوة، وتصدم وهي ترى رجال الشرطة يستخدمون الصور التي التقطتها للتعرف على هوية أعضاء الحركة الديمقراطية. إنها تتعرض لأكبر انتهاك لبراءتها. وفي لحظة يأس، يغادر توماس وتيريزا البلاد إلى جنيف، وتكون سابينا قد سبقتهما إلى هناك. لكنه سيعود ومعه تيريزا لمواجهة الواقع. يهدده رجال الشرطة السرية بسبب مقال قديم له، ويطلبون منه التوقيع على استنكار لأفكاره والوشاية بزملائه وأصدقائه. وعندما يرفض ينزلونه إلى مرتبة طبيب عام، ثم يجردونه من وظيفته تماما، فيذهب للعمل في تنظيف النوافذ.
في هذا الفيلم تألق داي لويس في دور توماس، فقد كان ينتقل من اللامبالاة إلى التفلسف، ومن العبث المجنون إلى الشعور بما يشعر به الناس خارج عالمه الخاص، ولكن من دون أن يتجرأ على النزول إليهم لينتهي وهو مرغم على أن يهبط إلى أدنى مستوى، فهذا هو على ما يبدو ثمن خطيئته في الانشغال العبثي بعيدا عما يحدث في الواقع. وفي المشاهد الأخيرة من الفيلم يستخدم المخرج كوفمان المونتاج العكسي، فيجعلنا نعرف أولا بوفاة توماس وتيريزا عن طريق خطاب يصل إلى سابينا التي هاجرت إلى أميركا، وبعد هذا نرى مشهدا للحادث نفسه مصورا في لقطات ناعمة الإضاءة صامتة. وفي اللحظة التي تسبق اختفاء السيارة داخل دائرة الضوء الأبيض الباهر، يهمس توماس “إنني لم أكن سعيدا أبدا كما أنا الآن”.
أعتبر أن أهم وأفضل أداء سينمائي لدانييل داي لويس كان في فيلم “سيكون هناك دم”. إنه لا يقوم فقط بدور البطولة، أي دور “دانييل بلانفيو” الرجل الشرس الذي يبحث عن النفط، ضاربا عرض الحائط بكل القيم، بل يحمل الفيلم بأكمله على كتفيه، موظفا كل خبرته وقدرته على الحركة والأداء والتعبير بالعينين وبارتجافة الشارب، ورمشة العين التي قد لا يلحظها أحد، يسير متثاقلا كأنه يخرج من الجحيم، يبدو بصوته الأجش المتسلط كما لو كان نذيرا باجتياح الشر العالم كله، بعد أن فقد روحانياته.
دانييل لويس إنه لا يتقمص فقط الشخصية ويؤديها بكل خشونتها وانعزاليتها وضراوتها في التعامل مع الآخرين من الخارج، بل وينجح في التسلل تحت جلد الشخصية، وتجسيد إحساسها الداخلي الميّت بالناس وبالدنيا
إنه لا يتقمص فقط الشخصية ويؤديها بكل خشونتها وانعزاليتها وضراوتها في التعامل مع الآخرين من الخارج، بل وينجح في التسلل تحت جلد الشخصية، وتجسيد إحساسها الداخلي الميّت بالناس وبالدنيا، كيف أصبحت هكذا، شخصية فاقدة الروح والجوهر. ومع فقدان المثل العليا يفقد الإنسان إنسانيته مهما حقق من الثروة والجاه، ولعل هذا هو المفهوم الفلسفي الأكثر عمقا الذي يسوقه إلينا هذا الفيلم البديع.
إن دانييل بلانفيو -كما يجسده دانييل داي لويس- رجل غامض، يبدو بلا ماض، مقطوع الصلة بالأسرة، يرفض قبول كل ما يمكن أن يذكره بالماضي الذي ودعه، يبدو مدفوعا بفكرة واحدة فقط هي جمع المال والتملك. وهو يخشى من المنافسة ولا يطيق أن ينافسه أحد حتى لو كان ولده بالتبني. إنه يجد الآخرين هم الجحيم بعينه، ولكن ليس على المستوى الوجودي عند سارتر الذي كان يعلي كثيرا من شأن الحرية الفردية بل كمبرر لأنانيته ورغبته في الاستحواذ.
إنه كما يقدمه الفيلم نموذج لنقيض البطل، فهو وحيد يعيش حياة جافة كملامح وجهه المتغضنة، يغيب عنه الحب وتغيب علاقته مع المرأة (لا وجود للمرأة في الفيلم بشكل عام، وهو بهذا المعنى فيلم ذكوري تماما إمعانا في تأكيد مستواه الرمزي)، كما يعاني من القطيعة مع الماضي وفقدان التاريخ والتخلي عن الأخلاق واستخدام التدين الظاهري ستارا لأعماله الاستغلالية والاستعلاء بالمال والقناعة بأنه كاف وحده للاستغناء عن الآخرين.
الفيلم الأخير
دانييل داي لويس، رغم اعتزاله، لن يغب تماما عن الشاشة هذا العام، فمن المقرر أن يعرض آخر أفلامه “خيط الشبح” في ديسمبر القادم، وهو أول فيلم يقوم ببطولته منذ “لينكولن” (2012) الذي فاز عن دوره فيه بجائزة الأوسكار لأحسن ممثل للمرة الثالثة بعد أن كان قد حصل عليها مرتين: الأولى عن “قدمي اليسرى” (1989) والثانية عن “سيكون هناك دم” (2007). ويعتبر لويس بالتالي الممثل الوحيد في تاريخ السينما الذي يحصل على هذه الجائزة ثلاث مرات كما رشح لها مرتين عن “باسم الأب” لجيم شيريدان (1993) و”عصابات نيويورك” لمارتن سكورسيزي (2002).
في الفيلم الجديد -الأخير- يقوم لويس بدور مصمم أزياء في لندن يقع عليه الاختيار لتصميم ملابس الطبقة الأرستقراطية والعائلة الملكية. والفيلم من إخراج بول توماس أندرسون الذي سبق أن أخرج “سيكون هناك دم” ويعتبر أحد أفضل المخرجين الأميركيين العاملين في السينما الأميركية اليوم.
ناقد سينمائي من مصر