طارق شوقي وزير مصري ينتقد سياسات النظام ويرفض "سيلفي" الأفكار

القاهرة- يخوض طارق شوقي وزير التعليم المصري معركة مصير هذه الأيام لإخراج التعليم في بلاده من وضعه المأساوي الراهن، وهو يعرف أن عين القيادة السياسية التي اختارته لهذا المنصب تتابعه الآن، كما أن المجتمع ينتظر منه الكثير، غير أن المشوار ليس سهلًا والمعوقات لا حدود لها، فهل ينجح في المهمة أم سيكون للتحديات الموروثة من عشرات السنين رأي آخر؟
وسواء في مصر أو غيرها لا يتحدث القائمون على تطوير التعليم عادةً عن العودة إلى الوراء بل إلى اللحاق بما وصل إليه العالم من تطوير وتحديث، لكن طارق شوقي، على العكس من هؤلاء، يؤمن بأن هذا التطوير لا يمكن أن يتحقق، تحديدًا، إلا بالسير نحو إعادة تجربة الماضي من حيث الانضباط وحب التعلم دون إهمال التجارب الحديثة لدول قفزت إلى ما بعد القرن الحادي والعشرين.
شوقي حاصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة القاهرة، ثم على درجة الماجستير في الهندسة من جامعة براون الأميركية، وعمل باحثًا بمعهد ماساشوستش للتكنولوجيا “إم آي تي”، ثم تدرج في المسار الأكاديمي بقسم الميكانيكا النظرية والتطبيقية بجامعة إلينوي في مدينة أربانا شامبين الأميركية، وحاز على جائزة الرئاسية الأميركية للتفوق البحثي عام 1989.
بتحصيل علمي ذاتي كهذا وأمام هذه المعادلة الصعبة “العودة إلى الماضي مع تحقيق الحداثة” يقف شوقي معارضًا شرسًا للوضع التعليمي القائم حاليًا في مصر، سواء من حيث طبيعة الإدارة أو أسلوب ونوعية التعليم المقدم للطلاب، فهو الذي اتهم المدارس بأنها “سجن كبير” يذهب إليه الباحثون عن التعليم وهم تعساء، وبمجرد الخروج منه والعودة إلى منازلهم يكونون في أسعد حال، ومن هنا قرر أن يتعامل بأسلوب مرن لهدم هذا السجن بأيّ طريقة كانت.
زاد على ذلك بأنه اتهم التعليم في مصر حاليًا بأنه يقتل الابتكار والإبداع، وصرّح بأن طريقة الامتحانات مريبة والبعض من المعلمين لا يصلحون لمهنة التدريس والتعلم أصبح عبارة عن شهادة يحصل عليها الطالب ليتزوج من خلالها دون أن يبحث عن ذاته أو يطوّر نفسه من خلالها فيبدع وينطلق، وقال “هذا واقع مؤلم وآن الأوان لتغييره”.
الوزير الشعبي
شوقي يصنع لنفسه شخصية استثنائية عند الناس، مختلفة عن الكثير من رجال الحكومة الآخرين، حيث اعتاد أن يكون صادقا يهاجم السياسات وينتقدها بأشرس العبارات، لدرجة أنه يعارض الحكومة نفسها في نظرتها وتوجهها نحو إقامة مشروعات قومية والابتعاد عن مجالات التعليم
ما يميز طارق شوقي أنه منذ تكليفه بالمنصب في 15 فبراير الماضي اعتاد أن يرضي الطلاب وأولياء الأمور والمعلمين سعيًا لإزالة جفاء العلاقة بينهم وبين الوزارة، وهو ما لم يكن يفعله أكثر من جلسوا على كرسي الوزارة من قبل، فتراه يحذف نصف المناهج لطلبة صفوف النقل بالمرحلتين الابتدائية والإعدادية، ويلتقي أولياء الأمور للتشاور بشأن سياسة الامتحانات ويستجيب للكثير من مطالبهم.
ينطلق في هذا التوجه من حقيقة أن المجتمع نفسه لا بد وأن يكون متقبلًا لما يتم من تطوير، وأن العلاقة بين أطراف المنظومة التعليمية يفترض أن تكون قائمة على الشراكة والتعاون لا على التحدي والعناد، وبالتالي فهو يذلل مشكلات وزارته مع الطلبة وأولياء الأمور والمعلمين كي يبدأ التطوير المنشود وهو بعيد عن المشكلات والأزمات مع أطراف المنظومة، بمعني أن يجري كل شيء في هدوء وأن يكون المجتمع راضيًا عمّا يحدث.
منذ يومه الأول في الوزارة، بل وحتى كان رئيسا للمجالس التخصصية للتعليم والبحث العلمي برئاسة الجمهورية، استطاع شوقي أن يجعل لنفسه شخصية استثنائية مختلفة عن كثير من رجال الحكومة الآخرين، حيث اعتاد أن يكون صادقًا مع الناس ويهاجم السياسات التعليمية وينتقدها بأشرس العبارات، لدرجة أنه يعارض الحكومة نفسها في نظرتها للتعليم وتوجهها نحو إقامة مشروعات قومية والابتعاد عن مجالات التعليم.
على العكس من باقي الوزراء والمسؤولين بالدولة تشعر أنه صريح لدرجة معارضته أحيانًا للنظام نفسه، حيث لم يسبق لأيّ مسؤول أن انتقد التوسع في مشروعات تنموية على حساب أخرى ويقول عنها “هناك الأهم”، فهو الذي تحدث بأن “الاستثمار في التعليم أهم من قناة السويس فالتعليم أمن قومي، والاستثمار في الأجيال المقبلة أهم من أي شيء آخر، وعلى الجميع أن يعي أنه لا نهضة بلا تعليم متميز”.
تكليف الرئيس
سبق وأن عُرض عليه منصب الوزارة أكثر من مرة ومع كل تعديل وزاري كان اسمه في مقدمة المرشحين وزيرًا للتربية والتعليم لكنه اعتاد أن يرفض لينأى بنفسه بعيدًا عن تحمل هذه المسؤولية الصعبة في وقت شديد الحساسية على النظام والحكومة مع زيادة حدة التدهور في التعليم وجفاف الموارد المخصصة لتطويره، وآثر أن يقدم المشورة من بعيد حتى جاء إلى المنصب بتكليف رئاسي في التعديل الوزاري الأخير.
|
غير أن ثمة من المشكلات ما يمثل عائقًا أمامه في مهمة انتشال التعليم من بحر الغرق في الجهل، أولها تركيبته الشخصية فهو يريد أن يفرض طريقة تفكيره وطبيعة البيئة التي عاش فيها بأوروبا ومختلف دول العالم المتقدم على كل من يتعاملون معه، وكثيرًا ما ينظر إلى البعض من الأمور على أنها تافهة وسطحية مثل ما تعلّم ودرس، في حين أن هناك من يعتبر نفس هذه الأمور مهمة للغاية، فعلى سبيل المثال فإنهم عندما يعرضون عليه مشكلة إدارية يعتبر ذلك ضياعًا للوقت.
بطبيعة حياته العملية هو شخص يعادي العمل الإداري البحت حيث كان أكاديميًا ولم يعمل من قبل كإداري ومتخصّص في متابعة شؤون جهة حكومية بحجم وزارة خدمية ترتبط بشكل مباشر مع كل فئات المجتمع تقريبًا بحكم أنها تضم 22 مليون طالب ومليونا ومائتي ألف معلم وعشرات الآلاف من الإداريين.
يُضاف إلى هذا العبء الآلاف من المدارس المتهالكة والآيلة للسقوط والصيانات التي لم تكتمل بعد للمباني المدرسية والمناهج التعليمية التي عفا عليها الزمن والكثافات الطلابية غير المسبوقة داخل الفصول، إلى جانب مسؤوليته أمام المجتمع والدولة عن تحقيق طفرة معنوية للتعليم الذي ينحدر مستواه وتقلّ جودته عاما بعد الآخر نتيجة لتخبط السياسة التعليمية منذ عشرات السنين.
معضلة أخرى تعترض طريقه وهي أن الوزارة نفسها ملغومة بالمشكلات التي قد تبعده عن التفكير في طريقة وآلية التطوير التي يحلم بها، إنه يريد الابتعاد عن كل ذلك ليتفرغ لوضع أسس جديدة للتعليم بمعنى أنه يحاول السير دون إقحامه في مسائل لا علاقة لها بطبيعة تفكيره كشخص يفكر ويبحث ويقرأ في نظم التعليم الأوروبية لتطبيقها في مصر.
استراتيجيات مغايرة
وحسبما يقول الوزير شوقي فإن الكثير من المعنيين بتنفيذ سياسات التعليم يعملون بطريقة “السيلفي” بمعنى أنهم يفكّرون ويتّخذون القرار بأنفسهم دون فكر المجموعة وذات مرة قال للمسؤولين “يزعجني سيلفي الأفكار، لماذا كلّ منكم يحتفظ لنفسه بحق اتخاذ القرار وحصرية الفكرة دون تشكيل فريق عمل لتبادل الآراء والوصول إلى رأي موحد؟”.
ثمة من المشكلات ما يمثل عائقًا أمام طارق شوقي في مهمة انتشال التعليم من بحر الغرق في الجهل
غير أن الرجل، وهو مطالب الآن أمام المجتمع والنظام بتحسين هذا الوضع المأساوي، يداه مكبلتان من جهات عدة وعلى رأسها تدنّي الميزانية المخصصة للتعليم والتي لا تتعدى 4 بالمئة من الناتج القومي سنويًا، ويذهب ثلاثة أضعافها كرواتب للمعلمين والإداريين ما سوف يدفعه إلى البحث عن أفكار خارج الصندوق لتدبير موارد مالية تساعده على النجاح في مهمته بعيدًا عن مد يديه للحكومة.
يوصف شوقي بأنه “الوزير الرحالة” حيث أمضى حياته متنقلًا بين دول عديدة مختلفة، إذ عاش 31 عامًا في مصر و4 في سوريا وعامين في ألمانيا وعامًا واحدًا في ليبيا وعامًا آخر في البحرين و3 في فرنسا و17 عامًا في الولايات المتحدة الأميركية، ثم كانت آخر وظائفه الأكاديمية أن عمل أستاذًا بالجامعة الأميركية بالقاهرة.
ونتيجة لذلك فإن لديه استراتيجية مغايرة تمامًا لمسار التعليم في مصر، فهو الحالم بأن يكون التعلم إلكترونيًا نظرًا إلى أنه قاد تنفيذ العديد من المشروعات حول العالم في مجال تطبيقات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات في التعليم والعلوم والثقافة، وعاش في أكثر من دولة أوروبية ودرس طبيعة تعلمها، ما ساعده على تبوّؤ منصب مدير مكتب اليونسكو الإقليمي في الدول العربية من عام 2008 وحتى 2012.
يشعر شوقي (60 عامًا) بأنه يعمل في بيئة هو غريب عنها نسبيًا وحتى لو كان على مقربة منها لسنوات، إلا أنه لم يدخل في دهاليزها أو يدرك حجم مصاعبها وهمومها لا سيما وأنه اعتاد التعامل مع العقليات الأوروبية البعيدة عن الروتين والبيروقراطية وتدرك من أين يبدأ التطوير وكيف توضع الأسس وبأيّ طريقة تذلل العقبات.
أما من يعملون معه بشكل مباشر وتحت رئاسته من المعنيين بالسياسة التعليمية والذين هم موجودون بالوزارة منذ سنوات فإنهم لا يعملون وفق خطة موضوعة يسيرون عليها ولم يعتادوا ذلك من الأساس، والمنظومة بالنسبة إليهم عبارة عن مناهج لم تتطور وامتحانات لم يتغير أسلوبها منذ عشرات السنين، وكل ما يعنيهم هو ضبط العلاقة بين المعلم والطالب فقط كي يخرجوا بالعام الدراسي إلى بر الأمان، وما دون ذلك فليس ذا أهمية، ولذلك فهو لا يخشى من الإعلان بصراحة عن حتمية نسف المنظومة من جذورها وبناء أخرى.
الوزير الهادئ
|
لم تنعكس أزمات الوزارة على مزاج طارق شوقي فهو شخص هادئ الطباع وكثير الصمت، يستمع أكثر مما يتحدث ولا يتكلم دون أن يبتسم، وإن تشاور لا يخرج كل ما لديه ولا يستطيع أحد ممن تعاملوا معه أو اقتربوا منه أن يفهم كل ما يدور بخياله، لكنه في ذات الوقت يستطيع أن يوصل رسائله في جمل مقتضبة للغاية.
وهو في المنصب لا يلتقي الكثير من معاونيه بالوزارة، وطوال الوقت يجلس ليقرأ المشهد التعليمي في صمت ويراقب عن بُعد ويطّلع على المشكلات بعيدًا عن الظهور المباشر لمواجهتها، ومن الصعب للغاية على أيّ مسؤول بوزارته أن يقتحم الحاجز الذي فرضه على نفسه لأنه يدرك أن هذا المسؤول سوف يحدثه في مشكلة خاصة أو مالية وإدارية، وهو لا يريد إقحام نفسه في ذلك بقدر ما يبحث عن التفكير في طريقة نسف المنظومة وإعادة بنائها من جديد.
يقول وزير التعليم المصري لـ”العرب” إن “مشكلة الإعلام في مصر هي أنه يركز على قضايا سطحية لا علاقة لها بصميم المشكلات وآلية مواجهتها، ودائمًا ما يسأل عن استفسارات بعيدة عن تطوير التعليم وأساليبه”، ويضيف “أنا أبحث عن إعلام نهضوي يشارك في التنمية ويقدم الأفكار والمقترحات، لا إعلام يركز على الإداريات والماليات والقضايا الهامشية، وعندي مشكلة كبيرة مع هذه النوعية من الإعلام، وحزين لذلك”.
لأجل هذا تبدو علاقته بالإعلاميين قائمة على مبدأ “أظهر عندكم عندما أقدّم جديدًا للناس”، فهو لا يهوى الشو الإعلامي بل يؤمن بأن مخاطبة المسؤول للمجتمع دون أن يكون لديه شيء مهم يقوله للناس قد يدفعه لحرج بالغ واتهامات بالإفلاس.
شوقي شخص لم يعرف الفشل في حياته وعاش في جولات مكوكية بين دول العالم العربي والأوروبي باحثًا عن كل ما هو جديد في العلم، وها هو تولى مهمة انتشال التعليم من الهوة السحيقة التي تدحرج إليها، فهل يحقق ما يصبو إليه؟ أم ستبتلعه الدوامة؟