حكاية معقدة وغريبة وقائعها في ثلاثين يوما

اشتباك العوالم المختلفة والمتناقضة، ومحاولة المزج بين الحقيقة والخيال في نص روائي مفتوح على كل الاحتمالات من خلال طرح ثيمة “التلصُّص”، كحامل موضوعي للعمل الأدبي، بلغة بسيطة بعيدة عن التعقيد، دفعت برواية “غرفة واحدة لا تكفي” للإماراتي سلطان العميمي إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” في نسختها لهذا العام.
الثلاثاء 2017/01/24
بطل واحد يصبح اثنين (لوحة للفنان غسان عزت)

منذ عتبة رواية “غرفة واحدة لا تكفي” المرشحة في القائمة الطويلة لجائزة الرواية العربية “البوكر” هذا العام، يضع الكاتب الإماراتي سلطان العميمي عبر 128 صفحة، القارئ في أجواء غرائبية فانتازية، فالمكان الجغرافي محصور وممتد في ذات الوقت، متَّحِدٌ ومنقسم معاً، متَّصلٌ ومنفصل بباب خشبي صغير ترتكز فيه فتحة لمفتاح قديم تمثِّل الثقب الأسود في الفضاء الكوني الذي يبتلع كل شيء.

ما من تفسير منطقي لكل ما يحدث مع بطل الرواية، الصادرة عن منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، حيث يمثل نسخة طبق الأصل عن بطل آخر يسكن في الحيِّز الجغرافي ذاته، أما الزمان فهو محدود بثلاثين يوماً فقط، تدور خلاله فصول الحكاية التي تسير وفق مسارين دراميين في بناء الرواية الأدبي، أحدهما مع النسخة الأصل التي تسكن إحدى الغرفتين والثاني مع الآخر الذي يمثِّل الوجه الشبيه الذي يقوم بفعل التلصص، وكلاهما يمارسان حياة طبيعية روتينية في تراتبية الأحداث.

تحدي الاكتشاف

تبدأ متعة اكتشاف الشبيه لعدم قدرته على عبور حدود المكان الجغرافي الذي حدّده الأول، فتكون محاولات التمرد المتتابعة والتي تبوء كلها بالفشل، في ظل تجاهل تام من النسخة الأصلية للنسخة المزيّفة، أمام هذا الفصل التام بين الشخصيتين، يضع العميمي بطله أمام تحدّي اكتشاف عوالم التلصص والمراقبة، حيث يخضع هو بدوره لتلصص أحد ما في مكان سريّ مجاور، وهذا المكان ما هو إلا القارئ الذي يبدأ بحلحلة عُقد الحكاية مع الصفحات الأخيرة عندما يكتشف بجرعة كبيرة من الصدمة أنَّ البطل المحبوس ما هو إلا شخصية روائية أراد العميمي منها تجسيدا تمثيليا لرواية يكتبها ويشارك القارئ بلعبة البناء فيها من خلال فعل التلصص.

هكذا يجيب الكاتب على تساؤله الدائم “أين تذهب شخوص الروايات والأعمال الأدبية في حال انتهاء الكاتب من سرد الحكايات التي تتضمنها؟”، إنها تبقى حبيسة الأوراق أو العوالم التي اختارها الصانع لها، عوالم قد تناسب تلك الشخوص وقد لا تناسبها، لكنها لا تملك في نهاية المطاف إلا القبول بها والتعايش معها مهما حاولت التمرد.

مشتركات واختلافات

المشتركات بين النسخة الأصلية والنسخة طبق الأصل كثيرة في العمل، منها التعلُّق بالأفلام السينمائية وبعض الروايات العالمية والكثير من العادات اليومية، أمام هذا تبدأ عملية المناظرة لتأخذ بعدا آخر على صفحات الرواية، فالتشابه الدقيق في كل شيء بدءاً بالبنية الجسدية ونبرة الصوت يقابله اختلاف حاد، فالكاتب الأصلي يمتاز ببعض الهدوء الشديد والرتابة، بينما الشخصية الروائية يسيطر عليها الغضب والبحث الدائم عن الحرية.

سلطان العميمي اعتمد في عمله الروائي على السرد بألسنة متعددة وبمرجعية عقلية واحدة تغذت بثقافات عديدة

هذا التناظر تطلب من العميمي إقامة جسور تبدو حقيقية بين الشخصيتين، لتجسير الهُوَة بين عالم الحقيقة والخيال، فالواقع والخيال يرتبطان ببعضهما البعض بخيط وهمي رفيع أراده الكاتب هلامياً غير موجود في الحقيقة، فتحوَّل النص بين يديه إلى نص مفتوح اقترب في عملية التشخيص من المشاهد المسرحية لبطل واحد يقف أمام مرآة أو دمية تتمتع بالقدرة على القيام بردود أفعال معيَّنة.

الأرضية المشتركة

في سبيل هذا الرابط الخفي والمكشوف في بعض الأحيان لجأ الكاتب إلى إيجاد أرضية مشتركة تمتد زمنياً بين الكاتب والشخصية الروائية، فكان لزاماً هنا خلق خط درامي جديد يتقاطع طوليَّاً وأفقيَّاً مع القصَّتَين.

هنا تبرز شخصية الجد الأول الذي كان يقوم برحلات بحرية في سبيل الصيد والغوص والبحث عن اللؤلؤ، وهذا نشاط معروف لأهلنا العرب في ما كان يُعرَف بساحل مُجان، الجد الذي يغادر من الشارقة إلى أبوظبي في رحلة بحرية يقرر العودة من أبوظبي إلى الشارقة برا حيث عقَد العزم على زيارة الأقارب في دبي.

نحن نتحدث هنا عن زمن كانت تلك الرحلات تأخذ فيه أسابيع متتالية، ذلك الجد يختفي في ظروف غامضة يتعلق بعضها بالسحر وتحوّله إلى كائن آخر على أطراف خور دبي، هذا الطرح جر القارئ إلى عوالم بعيدة كليَّاً عمَّا يدور في كنف الغرفتين المتجاورتين، فالجد له عوالمه الكاملة والكامنة في بعض تفاصيلها في مصير الشخصيَّتين الأساسيَّتين في الرواية، أبرز تلك التفاصيل يظهر في الاسم المشترك بينهما، الاسم الذي حمله الجد وابنه وحفيده معاً في مفصلٍ يستحق أن تُفرَد لهُ رواية منفصلة، فقصة الجد رغم عدم اقترابها من مسرح الحكاية الأصلي فعلياً إلا أنها المدخل الرئيسي لبدء حل الاشتباك الروائي وإعادة إنتاج الحكاية المتشعِّبة.

“غرفة واحدة لا تكفي” عمل روائي اعتمد فيه سلطان العميمي على السرد بألسنة متعددة وبمرجعية عقلية واحدة تغذّت بثقافات عديدة، فالتناغم الحاصل بين شخصيّتي العمل يدفع النسخة طبق الأصل لاكتشاف الأصل، وهنا يمكن التقاط صورة التجسيد أو التشخيص المعروف في الشعر الجاهلي حين يستنسخ الشاعر في مطلع قصيدته شخصا آخر للحديث معه، لكنها في المسرح الروائي عند العميمي اتَّخذت شكلاً آخر يقوم على التلصص والمراقبة، الذي يقوم به الكاتب وبطل الرواية والقارئ معاً لاكتشاف العوالم الخاصة وصولاً إلى فهم الواقع العام.

15