كما هي القدس

ما يزال فصل الشتاء في عزّ أيامه، ولكن مع التبدل المناخي في العالم اختلطت الأمور على الطبيعة وأشجارها ونباتاتها، فإذا بك تصادف شجرة واحدة تعيش هذه الفوضى بصمت وهي تحمل أغصانا عارية وأخرى مورقة.
شجرة لا يمكنك أن تكذب عينيك عندما تلمح بين أغصانها براعم لأزهار تتحضّر إلى ربيع لم يأت بعد، ربما الأغرب من ذلك هو أن تكون في يوم ما بين ماطر ومُشمس في سيارة تسير ببطء شديد بسبب زحمة السير الخانقة وأنت متوجه إلى مكان ما تأخّرت عليه، وينفتح نظرك من نافذة السيارة على مشهد آثر لا يبقى إلاّ للحظات.
هذا ما حدث معي تماما، منذ يومين عندما ظهرت تحت المطر الشديد وفي بقعة خضراء صغيرة ومن تحت ضوء شمس ضعيفة تسرّبت أشعتها من غيوم رمادية، مجموعة من أزهار شقائق النعمان وهي تترنّح بشفافية حمرتها التي تكاد أن تبث نورا أحمر اللون تحت زخات المطر.
فتحت النافذة مُسرعة، والحقيقة لا أدري لماذا؟ ولكنها ما لبثت أن غرقت في الجو المحيط بعدما ابتلعت السماء الرمادية أضواءها، بدت حينها وكأنها رئات صغيرة تتنفس الجو الشديد الرطوبة مُستعينة بمشهد بضعة أزهار اللبن البيضاء والمنمنمة التي أحاطت بها مُنتظرة منها أن تسطع من جديد، بين أي لحظة ولحظة.
من بين كل الأزهار التي رسمت في اللوحات التشكيلية حتى الآن لم أعرف أجمل من تلك التي تصوّر الأزهار المتوحّشة التي تنمو في الحقول والبقع الخضراء قبيل الربيع وخلاله، وشقائق النعمان تنتمي إلى هذه الأزهار، إن لم تكن أجملها على الإطلاق.
لا يخفى على أحد أن هذه الأزهار لها أصول عميقة في التراث العربي وقصصه الشعبية، لا سيما في بلاد الشام، كما أن لها دلالات وأوجها غنائية أنشدها الشعراء، كما رسمها الفنانون، وأحيطت بمجموعة من الأساطير قد تكون أهمها أسطورة أدونيس وعشتروت.
الفلسطينيون يعتبرونها زهرتهم المفضلة، وهي ترمز إضافة إلى الشهداء الذين سقطوا ولا يزالون في أرض فلسطين، ترمز أيضا إلى الشوق والانتظار، سكنت هذه الزهرة “العبقرية” بالغة الشفافية والهشاشة والصارخة والمشحونة برطوبة كل الأرض وتبدلات أحوالها طوال أيام وفصول السنة في آن واحد، لوحات فنانين كثر من أمثال إسماعيل شموط وسليمان منصور وعماد أبوشتية ولميس وغيرهم من الفنانين مع اختلاف أهمية الأعمال.
تبدو تلك الزهرة في لوحات جميلة بطلتها العذوبة، وتبدو في لوحات أخرى إشارة رمزية إلى فلسطين وشهدائها، وفي لوحات أخرى شديدة البساطة كما في لوحات الفنان السوري مجد كردية، حيث تبدو شبيهة بما رأيته ذاك اليوم: زهرة عبقرية وبطلة، صارخة الجمال في هشاشتها شقيّة ولا تبالي، شامخة بسيقانها الواهية إلى السماء، ماطرة كما المطر، مُشعة كما الشمس، باسمة تحت وابل من مطر يعشقها بأسلوبه الخاص الذي يجرّح بتيلاتها.
حاول الكيان الإسرائيلي جعل هذه الزهرة التي تعشق الولادة في حقول أشجار الزيتون والبرتقال “زهرتهم الرسمية”، واهتم بها اهتماما شديداً وعكف على زراعتها ليصدّر 60 مليون زهرة منها سنويا إلى مختلف بقاع العالم.
كل من يفهم شأن الأزهار، وخاصة الربيعية منها يعرف جيداً أن “المنتوجة زراعيا” تفقد الكثير من ألقها الأصلي، وخاصة زهرة شقائق النعمان الوعلية والمتوحشة، فجمالها يأتي بشكل رئيسي من أنّ لو يدا امتدت لتقطفها التوت وفقدت رونقها، فهل من يخبرهم بأن إنتاج وتصدير 60 مليون شقائق نعمان أو أكثر لن تجعل منها رمزا “إسرائيليا”؟ أزهار شقائق النعمان عربية، كما هي القدس حمراء وعربية، وإن احتاروا في أمرهم فليسألوها.