"2034 اقتراح متواضع".. كوميديا مسرحية جريئة تفكك مشاكل تونس

الجنس والجنسانية مدخل لتوصيف صراعات فردية وجماعية.
الاثنين 2024/12/09
لحظة مواجهة مع المجتمع والواقع

من بوابة خطيرة يحرم الاقتراب منها والحديث عنها، انطلق المخرج المسرحي منصف زهروني، حيث وظف الجنس والجنسانية في المسرح، ليخرج عملا كوميديا جريئا لعبت فيه الممثلة فاطمة الفالحي دور البطولة لتعبر بنص ملغم بالرموز والدلالات وجسد متمرد عن كل العلل والآفات التي يشكو منها المجتمع التونسي.

يعتبر الحديث عن المواضيع الجنسية أمرا خادشا للحياء العام، ما بالك إن كان هذا الحديث عبر الفن، حينها من السهل أن ترتفع الأصوات المنددة بالفن والفنانين، وفي بعض الدول قد تنصب لهم المشانق ويتعفنون داخل السجون. وفي تونس، التي يصنفها بعض الأشقاء العرب دولة متحررة، الأمر لا يختلف كثيرا إذ يظل الحديث فنيا عن الجنس وتوظيف الجنسانية خدمة لعروض فنية هادفة من الأمور السطحية جدا والنادرة أيضا.

وغير آبه بما يمكن أن يتعرض له من اتهامات ومخاطر، يخوض المخرج المسرحي منصف زهروني رفقة الممثلة فاطمة الفالحي والكوريغراف أحمد القريندي تجربة مسرحية كوميدية مختلفة، لا تشبه أي تجربة تونسية سابقة في الفن عامة، حيث يوظفان موضوع الجنس والمغالطات الشهيرة حوله وحول الحياة الجنسية والعلاقات والاختلافات السيكولوجية بين الذكر والأنثى لتسليط الضوء على الواقع التونسي بكل ملامحه السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية. يأتينا العمل المسرحي بعنوان “2034: اقتراح متواضع”، ليبين لنا أننا سنكون أمام تونس بعد عشر سنوات من الآن، نقف أمام مقترح متواضع يقدمه لنا أحدهم.

بطلة المسرحية (فاطمة الفالحي) تتقمص دور نيروز الرزقي، شابة تونسية من مواليد 1988، من عائلة ريفية، تعلمت في دولة أجنبية وعادت لتحاول النجاح في بلدها فوجدت نفسها بفعل الصدفة تشغل منصب رئيس ديوان وزير الشؤون الثقافية، تعمل تحت إشرافها ثلاثة شخصيات هي نماذج لمن يحصلون على الوظائف العمومية في البلد، أما الأول فهو أحد المنتمين القدامى للإخوان، غادر السجن بعفو تشريعي ليتنقل بين مناصب عديدة جراء الإمساك به متلبسا في عمليات تحرش جنسي.

حح

الشخصية الثانية هي لفتاة لم تكمل تعليمها لكنها من عائلة كبيرة سهلت لها الحصول على وظيفة مرموقة، والشخصية الثالثة هي لفتاة من عائلة بورجوازية تمتلك شبكة علاقات مهمة في الوسط الفني اكتسبتها من السهرات في حفلات الكوكتيل الليلية التي تقيمها السفارات ومنظمات المجتمع المدني ما أهلها لتكون واحدة من الفاعلين في الوزارة التي تصورها لنا المسرحية على أنها وزارة “الفساد المقنن”، وزارة تنشغل بالترفيه والتتفيه على حساب التثقيف والنهوض الفعلي بالوعي الجمعي.

تجد البطلة نفسها مطالبة بالإعداد لمهرجان غريب، بطلب من رئيس الدولة وإجماع كل وزراء الحكومة، لتساعدهم في “إخراج البلاد من عنق الزجاجة”. في يدها 21 يوما فقط لتنظم مهرجانا بعنوان “أيام قرطاج البورنوغرافية” التي يراهن عليها جميع السياسيين لتغيير وجهة البلاد، ورغم أنها تنجح في إصلاح البلاد كما لم يفعل أحد من قبل، تجد نيروز نفسها أما القضاء بتهم لا تعرف سببها، يتخلى عنها الجميع ويتركونها لتتولى الدفاع عن نفسها، فتفشل وتعدم.

ولماذا اختيار سم ونيروز؟ قد يستاءل البعض خاصة وأنه اسم غير منتشر في تونس، ستوضح الممثلة في آخر العرض أن النيروز أول يوم في فصل الربيع، رمزية للتغيير ولثورة الشباب ولتغير الأفكار وللولادة الجديدة التي قد تحدث في أي بلد بفضل أبنائها.

يبدو العمل منذ بدايته مختلفا، حيث ترحب الممثلة بضيوف العرض بأسلوب مختلف، متخذة من يمين الخشبة منصة لتخطب فيهم مؤكدة أن هذه المسرحية ليست موجهة لمن “لم يشاهد في حياته فيلما إباحيا، ليست موجهة لمن جاء فقط لاكتشاف عري الممثلة وحركاتها وليست موجهة للفرنكوفونيين الذين لا يعرفون جماليات اللغة العربية،” إنها مسرحية “كوميدية بروح تراجيدية نيتشاوية، تنظر في اتجاه الواقع بكل شجاعة وتحطم الأصنام دون الهوس بتشييد معابد جديدة على أنقاض العالم القديم“.

الفالحي توظف الجنس كمنظومة جمالية وثقافية وتكسر القيود دون خوف أو ضعف أو تردد لتقدم مسرحية جريئة

وكما أن العالم كما يراه نيتشه منقسم إلى جزئين؛ الأول يمثل من يتبعون رغباتهم الخاصة والثاني هم من يحققون رغبات الآخرين، ويجعلنا أمام نوعين من الأخلاق هي أخلاق السادة وأخلاق العبيد، جاءت المسرحية لتصور لنا هذه الثنائية بين سادة وعبيد، بين حاكم ومحكوم، وكيف أن “العدمي الذي يريد عالما على غير هذه الشاكلة” على حد قول نيتشه “لم يتفطن إلى أن العالم على غير هذه الشاكلة ليس موجودا“.

كذلك عرف المخرج المسرحية بصوت الممثلة التي تقمصت أيضا دور الراوية، بأنها “كوميديا غير هادفة لا تقدم دروسا، لا تسلط الأضواء، لا تتلحف بالسواد، لا تعري العاهات والاعواجاجات والتجاوزات والتناقضات في عالم مليء بالنقاد والمختصين،” لكنها في الحقيقية هي كل ذلك وأكثر، إنها تضع إصبعها على الداء وتدوس على الوجع الكامن فيه، تحير آلامه، لتذكر المتفرج التونسي بالعائلة المفككة، بالأم التي وجدت لكي تربيه ونسيت إنسانيتها وعطشها للحب وللزوج، بالأب المنشغل بكل أنثى جريئة تعرت لتثير غرائزه في الأفلام الإباحية، بنفسه طفلا يكتشف رغباته الجنسية لأول مرة، بالدين وكيف شوهه المتشددون وأفرغه المتدينون الجدد من عمقه الوجداني والقيمي، بالثقافة وكيف تحولت إلى تجارة رائدة، بالفن وكيف صار رمزا للفسق، بالاقتصاد وكيف يتحكم فيه الإقطاعيون وتتوارثه عائلات بعينها جيلا بعد جيل، وبالمهربين والاقتصاد الموازي.

إنها مسرحية تذكره بالمحسوبية والواسطة وأنظمة الحكم الاستبدادية، بمنظمات المجتمع المدني التي تضخ الأموال ساعية في خراب الدول، بالأقليات المهمشة، بالبنوك التي تنهب أموال الشعب، بالمنظومة الرقمية التي لا تواكب أي تطور رقمي يشهده العالم، بحال الفنان المفقر والمهمش، بالمجتمع المنقسم إلى طبقات، وبالكوميديا التي لا يمتهنها سوى أبناء الطبقات الكادحة كي يحولونها إلى سخرية فنية من الواقع.

نص مسرحي ينتقد الواقع دون مباشرتية رغم أنه يأخذ منه الكثير من التوصيفات والأسماء، نص يستعيد من التاريخ الكثير، وأهم ما يستعيده رمزية الكرنفال في العصور الوسطى وتحديدا لدى الحضارة الرومانية حيث كان الكرنفال عيدا سنويا ينظمه الحاكم ليمنح الشعب حرية مؤقته، يبيح له فيها كل الفواحش، يحرره من جميع القيود، ثم يعيده إلى السجن الكبير. هذه الفكرة هي ما اعتمدته الممثلة/ نيروز كي توجد كرنفالا تونسيا جديدا، يذهب بعقل التونسيين لفترة محدودة، دون أن ينتبهوا إلى أنهم قابعون في السجن ذاته، تحت رحمة السجانين أنفسهم.

وتتقمص الممثلة أكثر من شخصية في رحلة دفاعها عن البطلة، تنتقل من شخصية إلى أخرى بكل سلاسة وقدرة على الإقناع، معتمدة على قدراتها الصوتية وحركات جسدها الانسيابية، هي أيضا تغير ملابسها أمام الجمهور وكل زي يعبر عن صاحبته، وتستغل المساحات الزمنية المخصصة لعرض مقاطع فيديو أو لرقصات كوريغرافية عادة ما تكون تفسيرا لما ترويه لنا من تفاصيل الحكاية، رقصات قدمها أحمد القريندي وفاطمة الفالحي، منفصلة ومتصلة، ليعبرا عن المكبوت وعن الرفض لكل القيود، ليتمردا ويتلاعبا بالأفكار الثائرة والصادمة المطروحة ضمن العمل.

خخ

كذلك جاءت عناصر السينوغرافيا لتؤثث الخشبة وتجعلها مساحة ملائمة لفكرة العمل، حيث تظهر دميتان لعرض الملابس تديران ظهرهما للجمهور واحدة على يمين الخشبة وأخرى على يسارها، دميان لرجلين، طاولة تسريح الشعر على اليسار تقابلها يمينا شماعة للملابس، أما في المنتصف فوجد ديكور خشبي سيتخذ دور مقصلة للإعدام وعلى جانبيه  شاشتان للعرض، حيث وظفت في المسرحية تقنية الفيديو والموسيقى إلى جانب المؤثرات الضوئية ما جعلها مزيجا من الفنون البصرية التي تشدّ انتباه المتفرج وتعزز ثقافته البصرية وتحفز ذاكرته الانفعالية وتستفزه لإعادة تشريح العمل والتفكير فيه وفك شيفراته.

وفي اختيار نيروز (فاطمة الفالحي) اسم “أيام قرطاج البورنوغرافية” لمهرجانها، سخرية واضحة من الابتذال الذي وقعت فيه هذه التسمية، فالحال أننا في تونس استسهل لدينا إطلاق “أيام قرطاج” على أي مهرجان تستحدثه وزارة الثقافة، بعد أن كان هذا الاسم دليلا على عراقة المهرجانات وأهميتها كأيام قرطاج السينمائية الذي هو شيخ مهرجانات السينما في أفريقيا وأول من اتخذ هذا الاسم هوية له.

في هذه المسرحية التي يمنع حضورها على من هم أقل من 16 عاما، تضع الفالحي الواقع التونسي على طاولة التشريح المسرحي، وتوظف الجنس كمنظومة جمالية وثقافية وتحرره من قيود العيب والحرام، إنها تكسر القيود دون خوف أو ضعف أو تردد لتقدم مسرحية جريئة.

والمسرح في تونس جريء بكافة أنواعه، فهو كان ولا يزال من أبرز الوسائل التي يعبّر فيها الأفراد عن قضاياهم ويطالبون فيها بحقوقهم، ولكن قضايا الجنسانية في المسرح هي إلى اليوم “تابو”، يعتبرها البعض “خادشة للحياء العام” ويصعب طرحها على الملأ في ظل خطر الرقابة الأمنيّة والمجتمعيّة، هذا الخطر ضربه زهروني والفالحي عرض الحائط وأظهرا جرأة غير مسبوقة في الحديث عنه بعمل مسرحي “خطير” و”وقح“.

15