يوما بعد يوم العالم يعاني أكثر من "عقدة جوكاستا"

يمثل النجاح الذي لقيه أنصار ما بعد الحقيقة أحد أعراض مجتمع ما بعد الحداثة، الذي شهد صعود محرفي المفاهيم المتعلقة بالنسبية، فالتخلي عن قول الحقيقة يقلل من ثقتنا في تقدم المعارف ويسيء إلى المعايير الضرورية لسيرورة وجود الفرد كإنسان ومواطن. إن الجميع يقرّون بأن المواقع الاجتماعية بوتقة مميزة للطاعنين في الحقيقة، ولكن أليس لهذا الخطر الذي يهدد الحقيقة جذورٌ أعمق؟ ألا تجد ما بعد الحقيقة مرجعيتها في ميل الإنسان إلى التعتيم على الحقيقة؟ إن الإبانة عن منطلقات ما بعد الحقيقة تفترض إعادة وضع العلاقات بين لزوم الحقيقة وقوة نكرانها في سياق فلسفي.
ظهر مصطلح “ما بعد الحقيقة” أول مرة في مقالة لستيف تيشيك (1942-1996) وهو أميركي من أصل صربي، كان نشرها عام 1992 على أعمدة الأسبوعية الأميركية “ذي ناشيون”، بيّن فيها كيف أن الأميركان اعتادوا ألّا ينظروا إلى الأخبار السيئة. ثمّ انتشر بشكل دفع معجم أكسفورد إلى إدماجه كأهمّ لفظة جديدة للعام 2016.
كان الرأي السائد أنها عبارة سوف تطوى إلى جانب غيرها مما تحويه المعاجم، ولكن سرعان ما اتضح أنها تعبر عن ظاهرة عالمية تنذر بعهد جديد، صار فيه الفصل بين الصواب والخطأ، الحق والباطل، مسألة ثانوية، مثلما صار الالتزام بالحقيقة أمرا عفا عليه الزمن.
شكّ عام وهدّام
لقد رافق انتشار تلك الظاهرة على نطاق واسع استخدام التكنولوجيات الحديثة في الإعلام والتواصل، والمفارقة أن تلك التكنولوجيات سمحت بنقل رؤية ما قبل حداثية عن العالم، تسودها الإشاعة والأفكار المسبقة وكل مكونات الظلامية.
ولكن إذا صار كل شخص يشك في كل شيء، فماذا يتبقى كنقطة ارتكاز غير لجوئه إلى مدرَكاته الخاصة؟ لأن رفض كل حقيقة وقع إثباتها يؤدي إلى امتداح رأي يعبّر عنه صاحبه بتلقائية كمصدر وحيد لليقين، وبذلك يترك البرهان الحجاجي المنطقي مكانه للآراء ووجهات النظر. فلئن كان المسعى العلمي ينطلق في الغالب من فرضيات غير حدسية، فإن إنسان هذا العصر الذي يُعلي قيم الفردانية، يزعم أنه يكتفي بمعيشه وحدسه ومداركه الحسية، وهو ما يفسر مثلا عودة ثيمات السطحية، فالقول إن الأرض مسطّحة يعني الإقرار بيقين حسيّ، على حساب كل جهود الاستنتاج العقلاني وكل لجوء إلى الأدوات العلمية.
مثلهم من يقول إن الأرض لا تدور حول الشّمس، فهو إنما يقدّم التجربة الحسية البدائية على كل تجربة علمية. وبذلك يجد مسعى عقلنة الخطاب نفسه في مواجهة القناعات البدائية واليقينيات المستوحاة من معطيات فورية ومباشرة.
لقد كان الشكّ منذ القدم طريقا إلى اليقين، ولكن “الشكّ السيّء” يندسّ في كل شيء على نحو يبعث على اليأس من بلوغ الحقيقة الموضوعية، بل إن وسائل الميديا الكلاسيكية كالصحافة والإذاعات والقنوات التلفزيونية، التي يفترض أنها تقوم بدور سلطة مضادة، صارت محلّ انتقاد آليّ تقريبا، حيث يعتبر المنتقدون أن ما تنشره هراءٌ (bullshitting) أو أخبارٌ زائفة (fakenews)، وأن المواقع الاجتماعية هي البديل لكل من يروم وقاية نفسه من الأخبار الكاذبة والآراء المضللة.
تلك المواقع التي يفترض أن تكون وسيلة لتقاسم عالم مشترك، تحولت إلى ما يشبه عالما موازيا، فالعلاقات التي تُعْقَد في فيسبوك على سبيل المثال تقوم على عِقد اجتماعي جديد غايته أن يكون الوجه الآخر للمؤسسات القائمة.
عندما يعرض المستخدم رأيه على موقع اجتماعي يصبح من الصعب أن يمنع مشاركيه من اعتبار ذلك الرأي نظرية وأن يخضعه لمبدأ قابليته للدحض، لأن الغاية في الشبكة هي البحث عن أصداء ضرورية لتدعيم إحساس، وبدل تعديل الموقف على ضوء مواجهته بواقع موضوعي، ينطلق المستخدم في تصورات خيالية تغذي “نظريات المؤامرة”. والمفارقة أن أولئك المنتقدين يطالبون في منشوراتهم وتسجيلاتهم بالكشف عن الحقيقة ولكنهم ينكرون حقائق ثابتة معترف بصدقيتها من زمان، فيتحولون إلى دعاة شكّ عام.
الحقيقة الجزئية
في كتاب “فلسفة ما بعد الحقيقة”، بين ألان كامبيي، الأستاذ المحاضر بجامعة العلوم والتكنولوجيات في مدينة ليل الفرنسية، أن عصر ما بعد الحقيقة يبدو للسواد الأعظم من المفكرين رِدّة ثقافية لكونه يحيل على موقف تقليديّ بال هو إنكار الحقيقة، ووصف ذلك بـ”عقدة جوكاستا”، إحدى شخصيات مسرحية “أوديب ملكا” لسوفوكليس، حيث ثمة مواجهة دالة بين ساعٍ إلى الحقيقة بأي ثمن، ومتعنّتٍ يرفض الإقرار بها.
ولكن لا يمكن أن ندّعي تحليل جذور ما بعد الحقيقة ومنطلقاتها دون التساؤل عن معنى الحقيقة نفسها ومدى هشاشتها. فالحقيقة هي معيار كل خطاب يزعم التحدّث عما هو واقع، أي أنها ليست معيارا لما هو موجود، بل معيارٌ لكلّ خطاب عمّا هو موجود.
من هذه الزاوية يمكن أن نقيس قيمة تصريحاتنا التي تزعم أننا نتحدث عن الواقع، للتمييز بين القول الحق وبين الخطأ والكذب. ولكن حتى وإن استُخدم خطاب حقيقي لإخبارنا بأشياء خارجة عن نطاقنا، فإنه يظل رهين قائله، أي رهين حامل مجسّد يضفي بالضرورة طابعه الخاص على ما ينطق به.
ومن ثم فإن لزوم الحقيقة يقتضي أن يَطَّرح الفرد عن ذاته، لأن كل سعي إلى الموضوعية هو في وجه من الوجوه رهان وامتحان، لكونه يفرض على المرء، سواء في مجال العلوم أم القضاء، أن يخضع فرضياته لدحض ممكن، ويلجأ إلى أدوات، ويحترم بروتوكولات وإجراءات وقواعد… بذلك فقط يمكن للحقيقة أن تفرض نفسها.
أنصار ما بعد الحقيقة يضمرون بشكهم رغبة دفينة في أن يفرضوا بشكل متعسف تصورا معينا عن العالم
في مجال العلوم مثلا، نلاحظ أن وضع وسائل مادية ومنطقية لبيان حقيقة الأشياء هو الذي يكيّف نجاح البحوث، فهي من ناحية شهادة على إعادة تملك بشرية لمصادر الحقيقة العلمية، حيث يستبعد في العلم كل كشف للطالع ولو كان وحْيًا ربّانيّا، ولكن من ناحية أخرى، نجد أن كل الوسائل الضرورية لاقتناص الحقيقة تبيّن أن الإنسان لا يستطيع أن يبلغ غير حقائق جزئية، معروضة لعمليات تقويم وتصويب ذاتية. أي أن الحقيقة المطلقة، في نظر المفكر الفرنسي، لا وجود لها. ولذلك لا يمكن أن نفسر رواج ما بعد الحقيقة بسذاجة الناس وحدها، لأن المجتمعات الراهنة تتميز بالشك في كل شيء والارتياب من كل شيء.
لعل الميزة الخاصة التي تغذي هذا الموقف هو وضع الصدقية في مواجهة كل بحث عن الحقيقة الموضوعية، حيث يصبح المعيار الوحيد المقبول هو أن يدّعي الفرد أنه يتحدث بصدق، أي مباشرة، ودون تجميل، ويبذل قصارى جهده لإظهار مدى صراحته. فغالبا ما يزعم أدعياء الصدقية أنهم يمارسون خطابا خاليا من التصنع، يلقونه مباشرة، وجها لوجه، ما يعني أن المواقع الاجتماعية تمنحهم عذرية مصطنعة.
ولكن إذا كان كل من يقدم تجربته المعيشة كعربون صدقية، فإننا نعلم مدى ما يطرأ على “بروفايله” من تحوير وتغيير وتزوير، من جهة مستوى تعليمه أو اهتماماته أو انتماءاته وحتى سنه وصورته وهويته. وإذا بمن يزعم نشر حقيقته التي لا غبار عليها يقدم نفسه تحت اسم مستعار. وفي ذلك “محاولة للتعتيم على جانب من اللعبة يندرج دائما عند المطالبة باتفاق تام مع الذات”، كما يقول سارتر.
ذلك أن أنصار ما بعد الحقيقة يضمرون وراء إضفاء الشك على الحقيقة كقيمة، رغبة دفينة في أن يفرضوا بشكل متعسف تصورا معينا عن العالم يتحدّى الحقائق التاريخية والعملية، ويعملوا على ترسيخه في أذهان متابعيهم.
وبذلك تتبدى ما بعد الحقيقة كتعبير عن إرادة قوة كلبية (نسبة إلى المذهب الكلبي الذي يقول باحتقار الأعراف والتقاليد والأخلاق السائدة والرأي العام) تستهين بالمعايير الإبستيمولوجية. وهي نيهيلية إدراكية تحمل في طياتها نيهيلية إيتيقية، لكونها لا تقيم وزنا لأي معيار في موازنتها بين الخطأ والصواب، بين الحق والباطل.
ولكن من السذاجة الاعتقاد بأن ذلك يصدر فقط عن مستخدمي الإنترنت الذين يجترون في المواقع الاجتماعية نظريات متهافتة، لأن نشر الإشاعات والأخبار الزائفة صار نمطا من أنماط الحياة في هذا العصر، مثلما صار كل فرد يعتقد أنّه مخوّل لقول حقيقته، كما تتبدى له عن قناعة أو عن رغبة في لفت الانتباه، في عصر تُمجّد فيه التفاهة والرداءة.
وما ذاك إلا من مخلفات الحداثة التي أحالت الحقيقة على ذات تصدر حكمها في ما يطرح عليها، سلبا أم إيجابا، وهو ما عبر عنه كانْت حين أكد أننا لا يمكن أن نعرف إلا ما يبني فهمنا، أي الظواهر، ما يعني إعادة النظر في التصور القديم والأنطولوجي للحقيقة.
كذلك نيتشه الذي همّش البحث عن الحقيقة، وصارت الرغبة في تصوره هي التي تتحكم في الفرد، حيث يدعو كل واحد إلى حقيقة على قدر مصلحته. أي أن هشاشة مبدأ الحقيقة جاءت من فلاسفة طعنوا في وجود حقيقة دون شروط، ثم تخلصوا من مبدأ الحقيقة نفسه ومن الإرث ألأنطولوجي الإغريقي، ليوجدوا نيهيليةً مهدت لظهور ما بعد الحقيقة.
الإنكار حالة مرضية

كتاب "فلسفة ما بعد الحقيقة" يبين أن عصر ما بعد الحقيقة يبدو للمفكرين رِدّة ثقافية لكونه يحيل على موقف تقليديّ بال هو إنكار الحقيقة
إن الحقيقة غالبا ما قدّمت كشيء مطلق يفرض على الجميع بقانون القوة أو بقوة القانون، بل ثمة أنظمة وحكام عبر التاريخ استأثروا بالحقيقة، سواء العلمية منها أم الأخلاقية والسياسية.
أفلاطون نفسه كان يعرف، حين أضفى قدسية على الحقيقة، أي دور سيسنده إلى “كالّيبوليس”، مدينته الفاضلة، لأن الفلاسفة هم الذين سيتولون حكمها. ذلك أن العلاقة بين السياسة والحقيقة هي علاقة نزاع منذ القدم، والإغريق لم يخطئوا حين وضعوا رجل الحقيقة كنقيض لرجل السياسة، فكلاهما يعرّض نفسه للخطر إذا أخذ موضع الثاني، فقد يفقد الأول ثقة الناس فيه إذا مارس السياسة وحاد عن الحقيقة، بينما يفقد الثاني موقعه وربما رأسه إذا عمل بها.
ولو أن أفلاطون استطاع أن يفلت من تلك الثنائية حين أكد أن “كالّيبوليس” ينبغي أن يحكمها أصدقاء المعرفة.
وصفوة القول إن البحث عن الحقيقة، برغم كل الجهود التي يتطلبها، يبدو من المسائل القارة في الوضع البشري، ومن حسن الحظ أن التراخي الراهن أمام هذه الظاهرة أي “ما بعد الحقيقة”، سوف يتكسر حتما كسائر الظواهر الأخرى على صخرة إرادة المعرفة، لأن الإنكار حالة مرضية لا تؤسس لمعرفة، ولا تمهّد لمستقبل.