ينس-مارتن إريكسن يروي ثلاثين يوما مخيفة من حياة شاب قاتل

"شتاء عند الفجر" حكاية حرب على لسان مجنّد في الميليشيا.
الثلاثاء 2021/11/09
الحرب تحوّل البشر إلى أرقام (لوحة للفنان سيروان باران)

الكثير من كتاب الروايات يحدث معهم أن يكونوا بصدد تأليف رواية ما، فيجدون أنفسهم يحيدون عنها إلى رواية أخرى تماما، لم تكن في الحسبان، وهذا ما حدث مع الروائي الدنماركي ينس-مارتن إريكسن، الذي غيرت رحلته إلى برشلونة مشروعه الروائي جذريا، ليجد نفسه أمام حكاية غريبة رواها كما هي.

قرأنا وسمعنا من كتاب الرواية عن الظروف التي تهيأت لهم لكتابة روايتهم، ورواية “شتاء عند الفجر” لها ظروفها أيضا، حيث إن كاتبها الروائي الدنماركي ينس-مارتن إريكسن، لم يستلهم أحداثها من المدينة التي كان يزورها، أو من أحداث شاهدها، أو من مجموعة قصص خلطها مع شخوص ابتدعهم لروايته، بل جاءت بمحض الصدفة، عندما التقى بشاب في العشرينات من عمره، ورآه متعطشا للحكي، بل مصرا على الإفصاح له عن حقبة لا تتجاوز الشهر من حياته.

 وبعد أن سمح له، وجد هذا الكاتب نفسه سجين حكايته، مما دفعه إلى استعادة وجمع كل ما سمعه من الشاب أولا بأول، ليسجله في رواية، وكأن الاثنين قد اتفقا على أن هذه الحكاية يجب أن تنشر ليقرأها العالم، رغم أن الشاب لم يفصح عن هويته أو عن الأماكن التي شهدت أحداث حكايته أو أسماء الشخوص الذين تحدث عنهم.

يوميات شاب في العشرينات مع الميليشيات

يوميات المجند

الرواية التي ترجمها عن الدنماركية الشاعر وعالم الفيزياء الدنماركي من أصول عراقية سليم العبدلي وصدرت أخيرا عن دار ميريت بالقاهرة، تتحدث عن يوميات 30 يوما عاشها شاب في العشرينات من عمره بعد انضمامه إلى إحدى الميليشيات التي تشكلت عقب اندلاع حرب أهلية ببلده، وكانت قيادة الميليشيا تقرر لكل عنصر من عناصرها اسما مستعارا خياليا، وتطلق كذلك أسماء مستعارة خيالية على المناطق التي تحت السيطرة عليها سواء كانت قرى أو مدنا أو تلك التي سيقتحمونها، كما كانت تنبه على كل عنصر جديد يتم تجنيده أن علاقته بها وبزملائه لن تدوم أكثر من شهر بعده إن حدث والتقى أحدهم بآخر، يجب التكتم على ما حدث معهما أثناء الخدمة لدى الميليشيا.

الرواية عبارة عن فصول كل فصل فيها يحمل اسما “خياليا” للمكان الذي تدور فيه أحداثه، أو اسما “خياليا” لأحد أبطاله، وما يجمع بين الفصول هو الرعب الذي كان يحتضن المجندين الجدد من الشباب الذين يتولون عمليات القتل للمخالفين ودفنهم في مقابر جماعية، حيث يأخذون الأسرى من الرجال تحديدا إلى أماكن غير مأهولة ويطلقون النار عليهم! فقط لأنهم من أديان أو طوائف وقوميات أخرى، غير تلك التي تنتمي إليها الميليشيا.

تعالج الرواية كيف تتطور حالة الرعب من ممارسة القتل لدى هؤلاء الشباب حتى تصبح أمرا اعتياديا عاديا، إنها رحلة نفسية في الأعماق تفضح تأثير الحرب على النفس البشرية، حيث يتحوّل فعل القتل والموت إلى أمر طبيعي يمارسه الإنسان، وبعد ذلك يتشبث بالنسيان أو الكتمان.

صاحب ترجمة الرواية مقدمتان أولهما للمترجم والأخرى للروائي، ويقول الأخير كاشفا عن انطلاق فكرة الرواية “في خريف عام 1996 سافرت إلى مدينة برشلونة في إسبانيا، ونزلت في نفس البنسيون الذي كنت قد نزلت فيه في رحلة سابقة. كان هدف رحلتي هو التفرغ لكتابة رواية جديدة. لكن، وكما يحدث عادة عندما ينوي المرء ويضع هدفا ما أمامه، يجد أن القدر يعترضه بكل ما يعرقل نيته ويعيقه”.

ويضيف “في حالتي، كان القدر نزيلا في نفس البنسيون، شاب يصغرني كثيرا، ولسبب أو لآخر، ظنّ أني أعرف زوايا وخبايا مدينة برشلونة، حيث جمعنا القدر نحن الاثنين فيها، وفي نفس البنسيون. ربما لأنه سمع من صاحبة البنسيون أني نزلت سابقا هنا وظن أنني قد ترددت كثيرا على هذه المدينة، لا أعلم بالضبط. المهم، لم يُضيّع هذا الشاب وقتا حتى بدأ يسمح لنفسه بدخول غرفتي، دون دعوة منّي، ليقص لي حكايته”.

ويتابع إريكسن “حالما بدأ برواية الحكاية صرت على بيّنة من أن أهمية حكايته وأثرها لا يمكن مقارنته بالرواية التي كنت أزعم أن أكتبها هنا في برشلونة، لذا قررت أن أتفرغ له وأن أكتب هذه المرة على لسانه، أكتب حكايته التي أصبحت شُغلي الشاغل، وبدأت أنتهز أي فرصة لعدم تواجده معي لأوفر لنفسي الهدوء الكافي الذي يساعدني على صياغة ما سمعته منه. هكذا كانت بدايتي مع هذا النزيل، الذي لن أبوح هنا باسمه، وسأكتفي بالحرف ‘زاء‘ اسما له، وهكذا هي بدايتي مع هذه الحكاية التي سأرويها، هذه الرواية التي كانت بالطبع سببا في اندثار الرواية التي أتيت من أجل التفرغ لها وكتابتها في هذه المدينة”.

ويختم “انتهى من حكاية قصته لي في ليلة قضيناها معا في أحد البارات في الحي الصيني باريو شينو في برشلونة، وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى حجرته فوجدتها خالية، ولم أجد فيها سوى آثاره من المنافض المليئة بأعقاب السجائر وقناني البيرة المرمية تحت السرير. وعندما سألت صاحبة البنسيون عنه أخبرتني أنه قد رحل، ولم يترك عنوانا أو معلومة عن الوجهة التي ذهب إليها. حدسي يحدثني بأنه عبر مضيق جبل طارق واتجه جنوبا لكي يجد مكانا تضيع فيه قصته مع قصص الآخرين، كما أخبرني مرة دون قصد. وما فعلت بعدها هو أنني بذلت كامل جهدي في أن أحتفظ بحكايته هنا”.

حكاية بلا روتوش

الكاتب الدنماركي يأخذنا في رحلة نفسية في الأعماق تفضح تأثير الحرب على النفس البشرية وكيف تجردها من البراءة والمثل الإنسانية
الكاتب الدنماركي يأخذنا في رحلة نفسية في الأعماق تفضح تأثير الحرب على النفس البشرية وكيف تجردها من البراءة والمثل الإنسانية

في مقدمته يضعنا العبدلي في مشهد الحرب وآثارها من الحرب العالمية الثانية، إلى حروب الشرق الأوسط، فالحرب الأهلية اللبنانية، وحرب البلقان أو الحرب في يوغسلافيا السابقة التي شكلت صدمة عنيفة للأوروبيين، وذلك ليضيء تجليات الرواية، حيث أضاف أن العبرة في رواية إريكسن أنها لا تتناول تفاصيل الحرب أو أسبابها وظروفها، ولا تصور مشاهد دموية أو بطولات حربية، وإنما تعرض موضوع الحرب ذاتها، ماهيتها ومدى تأثيرها على الذات الإنسانية التي تحمل في طياتها الخير والبراءة والمعرفة بالقيم الاجتماعية أيضا. حيث تطرح على لسان أحد مجندي الميليشيا تجربته في الحرب، وتوضح كيف تم تحويله إلى جلّاد يقتل الأبرياء دون أي ضمير أو سابق تفكير.

يروي إريكسون كيف لحالة الحرب وقرع طبولها أن تغيّر من النفس البشرية المسالمة وتجعلها أداة قتل في ماكينتها التي لها أن تحوّل وعلى حين غفلة الجار إلى غريب يمكن قتله وإزالته من الوجود دون أي رادع أخلاقي يمنع ذلك، وتجعل عقوبة أو محاكمة مثل هذه الأفعال اللاإنسانية غائبة كيف لحالة الحرب هذه أن تحوّل الشباب العاملين والمتسكعين وحتى المتعلمين إلى أسلحة تفتك بحياة الآخرين.

هنا يروي لنا أحد الشباب المتعلمين الذين أقنعتهم ماكينة الحرب وصناعها كيف تجرد من البراءة والمثل الإنسانية ليحمل السلاح دون سبب وينهي حياة الناس المسالمين والعزّل في المدن المجاورة لمدينته، بل حتى أصدقاء طفولته الذين كان يلعب معهم ويشاركهم ذكرياته، فقط لأن قيادة الميليشيا أقنعته بخطورة الآخر على أمنه وباختلافه عن الذين سيقتلهم، ذلك الاختلاف الذي يشكل خطرا على وجوده ووجود أهله وأحبته، واستخدمت مصطلح “إما نحن وإما هم”، كما هو مستخدم من قبل حكومات الدول المتقدمة والمتأخرة في حروبها.

ويوضح العبدلي أن فتى إريكسون أو بطل روايته يسترجع الصراع الداخلي الذي مر به بين الخير والشر، وكيف يميل الضمير بسرعة فائقة ليدعم ما يتعارض مع المبادئ الاجتماعية والقيم الأخلاقية التي تربى عليها، وكيف وعلى حين غفلة تحوّل إلى جلّاد ينهي حياة الآخرين. وذاك الصراع الداخلي الذي يدور في داخل الإنسان، يتجلى في حواره مع ضميره عندما يمسك السلاح ويكون على وشك أن يطلق النار على إنسان آخر لأول مرة في حياته.

الرواية لا تتناول تفاصيل الحرب ولا تصور مشاهد دموية أو بطولات بل تغوص في تأثيرها العميق

ويشير العبدلي إلى أن الرواية تخلو من الزمان والمكان، من الطبيعي أن تكون كذلك، لأن المخططين للحرب كانوا من الحنكة بحيث ابتدعوا أسماء خيالية للمدن والقرى التي هجّروا أهلها وأعدموا رجالها ودمّروا ما فيها، فأطلقوا عليها أسماء من بلدان بعيدة، تشبه حكايات الخيال، مثل “أريزونا” و”كولومبوس” و”زانجيبار”و”زامبيزي”. كذلك أعطوا عساكر الميليشيا أسماء مستعارة، مستوحاة من لُعَب الأطفال، أي من الخيال أيضا مثل “لودو” و”دالتا” و”جاما” و”موبيوس”، وبذلك لا يتسنى للعساكر خلق أي رابط جغرافي أو حسي مع هذه الأمكنة وكأنها أمكنة خيالية، وأسماؤهم المستعارة ليست إلا أسماء للُعَب يتسلى بها الأطفال ولا يمكن لأحد أن يربطها بمدينة أو ثقافة محددة.

حنكة مخططي هذه الحرب لها أبعادها النفسية والعملية أيضا، فعندما يتحدث العساكر مع بعضهم فهم يتحدثون عن أماكن لا يعرفها إلا هم، وعندما ينادي أحدهم الآخر، فهو يناديه باسم لا يعرفه إلا من معه، وهكذا.

 وقد حافظ الكاتب في هذه الرواية على هذه التسميات، نزولا عند رغبة الراوي الذي أراد أن تكون حكايته عِبرة لجميع البشر، لأنه يرى أن الحروب متشابهة التبعات ونتائجها على الذات الإنسانية أينما حدثت وفي أي زمان. وكما يراها، فهي ليست إلا رخصة للقتل، ممنوحة من قبل مؤلفي الحرب والمنتفعين منها دون إعارة أي اهتمام للكوارث التي تتوزع وبالتساوي على منفذيها وضحاياها.

وختم العبدلي “لقد تعمد الكاتب أن يقدم الرواية كحكاية، كما رواها له ذلك الفتى المجهول الذي صادفه يوما في مدينة سياحية دون معرفة سابقة بينهما، ولم يحاول أن يكون مؤلفا لرواية، بل نقلها كما تسنى له تدوينها عندما كان الفتى يقص عليه حكايته بلغة الحديث والحوار مع الذات، ولذا فهي حكاية راو أو ربما رواية حاك، ابتعد فيها الكاتب عن أسلوب الرواية وأدبها وعن الخيال، وقدمها لنا كما سمعها هو على لسان هذا الفتى، دون رتوش.

13