ياسين فراج: الاستمتاع ركيزة أساسية لتقييم الأغاني

تذهب الأغنية بالجسد فيتغنى بكلماتها فرحا أو حزنا، يعلو صوته أو يهمس، فيما تهيم الروح طربا وفتنة بموسيقاها المتغلغلة فيها، فالأغنية كلماتها وموسيقاها تشكل العلاقة بينهما علاقة جسد وروح، ربما يسهل التعرف على ملامح الجسد لكن سبر غذاء الروح وكشف عناصر عمله أمر صعب، من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب “شدو الألحان” للناقدة الموسيقية المصرية ياسمين فرّاج.
في كتابها الأخير بعنوان “شدو الألحان” تصحبنا ياسمين فراج، أستاذة النقد الموسيقي بالمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون، في رحلة للتعرف على كيفية بناء وصناعة موسيقى الأغنية العربية، كاشفة نسيج العلاقة بين الكلمة والموسيقى، وأساليب تذوق الموسيقى، انطلاقا من هدف يتمثل في نشر الثقافة الموسيقية غذاء للروح.
تهدي فراج كتابها، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، إلى محبي الموسيقى وفنانيها، وتقول “نستمع إلى الأغنيات فنجد أنفسنا نتراقص مع نغمات ونبكي مع أخرى، ننجذب إلى أغنيات ونبتعد عن أخرى، ولا يعرف الكثيرون لماذا نستملح أغنية ولا تستهوينا أخرى، وغالبا ما يرجع ذلك إلى درجة التذوق الموسيقي عند الفرد، التي تختلف في تلقّيها من شخص لآخر، بما يتفق مع نشأة كل فرد وثقافته”.
السماع والاستمتاع
تؤكد الباحثة أن العلاقة بين هواة الاستماع للموسيقى والغناء العربي والناقد الموسيقي المحترف هو التذوق الموسيقي، فكلاهما قادر على تقييم العمل الموسيقي الغنائي، ولكن أدوات وسُبل تحقيق ذلك هي التي تختلف، فهواة الاستماع للموسيقى يستطيعون إدراك القيمة الجمالية بالفطرة السليمة في العمل الموسيقي الغنائي، من خلال ممارسة فن الاستماع، ولكن من الصعب عليهم الوقوف على هذه العناصر التي جعلت من عمل ما متميزا، وعملا آخر ذا قيمة أقل منه، لأن ذلك يتطلب المعرفة ببعض علوم الموسيقى، إلى جانب القدرة على التفسير.
وترى فراج أن السماع يرتبط بالجانب الإدراكي عند المستمع، ويتأثر بالحالة المزاجية عند المتلقي الهاوي، والدليل على ذلك أنه يمكنك تقييم أجزاء من العمل الموسيقي الواحد بعدة تقييمات مختلفة تبعا لحالتك المزاجية، فأحيانا يكون انجذاب المستمع للكلمة، وأحيانا للإيقاع، وأحيانا للخط اللحني وأحيانا للتوزيع الموسيقي أو التنسيق الآلي للعمل الغنائي، أما المعرفة فهي التي تمكن المتلقي من تمييز عناصر العمل الموسيقي، والقدرة على إيجاد العلامات المكونة للدلالة في العمل الموسيقي، والتي تمكن الناقد من تفكيك العمل الموسيقي ومن ثم تقييمه.
السماع يرتبط بالجانب الإدراكي عند المستمع، ويتأثر بالحالة المزاجية عند المتلقي الهاوي
وتشير إلى أن الركيزة الأساسية في عملية التذوق الموسيقي هي الاستمتاع، وهي وظيفة من وظائف العقل يجب أن يتوافر فيها الهدف، والهدف هنا هو محاولة الوصول إلى العناصر المكونة للعمل الموسيقي، ولذلك يجب أن نفرق بينها وبين كلمة سماع والتي تعد من وظائف الأذن إحدى الحواس الخمس، وفيها يتم تلقي مثيرات صوتية أو موسيقية بعينها، دون الإدراك العقلي بها ودون تحديد للهدف، وحاسة السماع تؤثر فينا على نحو غير مباشر مثل سماعك لأغنية في وسيلة مواصلات، في مقهى، في احتفالات اجتماعية خاصة وعامة، أو أثناء السير في الشارع، أو أثناء العمل اليومي، أو أثناء المذاكرة.. وما إلى ذلك.
وأنت في هذه الحالة تسمع دون تمعن في ما تسمعه، لسببين: أولهما أن ما تسمعه مفروض عليك وليس من اختيارك، ثانيهما أن الأجواء المحيطة بحالة السماع لا تمكنك من تحديد الهدف مما تسمعه، فبالرغم من إدراكك أن ما تسمعه هو عمل موسيقي أو غنائي، إلا أنك لا تستطيع تمييز جماليات أو سلبيات هذا العمل.
وللوصول إلى مرحلة الاستماع، تحدد فراج ثلاثة مستويات يجب أن يمر بها المتذوق أولا: المستوى الحسي وهو الذي يتم فيه استقبال العمل الموسيقي عن طريق الحواس وتحديدا حاسة السمع، وهي أبسط المستويات ومن خلالها يستطيع الإنسان الإحساس بأن هناك أصواتا متوافقة ومنتظمة أو متنافرة غير منتظمة، حيث يتم السماع دون تفكير أو تقدير للموسيقى ومضمونها. ثانيا المستوى التعبيري وهو المستوى الذي يتم فيه التمييز بين المثيرات الموسيقية، مثل الإيقاع والصوت، سواء كان بشريا أو آليا ومن خلال هذا المستوى يشعر الإنسان بأن العمل الموسيقي يعبر عن حالة انفعالية ما.
أما ثالث المستويات فهو المستوى الموسيقي وفيه يصل الإنسان إلى أعلى مستويات الاستماع، والذي يستطيع فيه تحليل العمل الموسيقي إلى مكونات “إيقاع ـ صوت ـ هارمونية” ثم إدراك العلاقة بين هذه المكونات ببعضها. وهذا المستوى هو الذي ينبثق منه النقد الموسيقي، وهو أرقى مراحل التذوق الموسيقي والذي من خلاله يتم التحكم على العمل الموسيقي بشكل موضوعي إلى حد كبير.
تحليل نقدي
تتساءل فراج: كيف يمكننا تذوق الموسيقى؟ وتقول “لكي يمكننا تذوق الموسيقى لا بد من التعرف على ثلاثة عناصر أساسية العنصر الأول: الصوت ‘النغم‘، وهو كل جسم قادر على إحداث ذبذبات، ولكي يسمع الصوت يجب أن تتراوح ذبذباته ما بين 16 إلى 20 ألف ذبذبة في الثانية تقريبا. والصوت عبارة عن نغمات، ولكل نغمة عدد من الترددات المحددة، وعدد تلك الترددات هو ما يجعل هناك نغمة حادة وأخرى غليظة، والنغمات المنتظمة تحدث نوعا من الموسيقى، وغير المنتظمة تعد ضجيجا أو ضوضاء”.
وتضيف “يتميز الصوت الموسيقي بثلاث صفات أولها الدرجة التي تحدث نتيجة عدد الاهتزازات في وقت محدد، وكلما زادت الاهتزازات اتجه الصوت إلى الجدة. وثانيهما شدة الصوت وقوته، والتي تتوقف على قوة الاهتزازات وتتحكم في مدى ارتفاع أو انخفاض الأصوات، وثالثها نوع الصوت وهو طابع الصوت وصفته الخاصة به، ومن خلاله يمكن تمييز أصوات الآلات أو البشر أو أي كائن حي عن الآخر، وأقل الآذان تدريبا على الاستماع يمكنها التمييز بين الطابع الصوتي للصوت. ومن خلال تسلسل الأصوات التي هي النغمات ـ بنسب حسابية محددة ـ تتشكل هوية المقام كما يطلق عليه في الموسيقى العربية، أو السلم الموسيقي كما يطلق عليه في الموسيقى الغربية، الذي يكون له لون سمعي محدد يحمل الشجن، البهجة، القوة، والحزن”.
العنصر الثاني كما ترى الباحثة هو الزمن، ويحدده الإيقاع الموسيقي ووظيفته تنظيم حركة الصوت، سواء كان آليا أو بشريا، ليخرج في شكل منتج موسيقي، والإيقاع في الموسيقى يعني تقسيم الأزمنة تقسيما منظما، يختلف من حيث الطول والقصر، ومن خلاله يتم تحديد سرعة اللحن أيضا. والإيقاع هو أصل الموسيقى لأن الإنسان عرف الإيقاع قبل أن يعرف الكلام، وهناك كم كبير من الإيقاعات في العالم، وكل دولة بها عدد من الإيقاعات داخل مناطقها المختلفة التي تعبر عن البيئة الجغرافية والثقافية النابعة منها. أما العنصر الثالث فهو الطابع الصوتي هو ذلك الصوت ذو الصفة الخاصة الذي يصدر عن وسيط موسيقي إذ كما يستطيع أي إنسان التمييز بين اللون الأبيض واللون الأخضر، كذلك يعد التمييز بين الطوابع الصوتية المختلفة من الأحاسيس الفطرية التي تولد معنا وليس من المهم معرفة درجات الأصوات وأسماء الآلات، ولكن ما يعنينا هو معرفة الفرق في نوع الصوت عند الاستماع لأي منهم.
وتستشهد الباحثة هنا بأن هناك آلات موسيقية يتسم صوتها بالقوة مثل آلات النفخ النحاسية، بينما هناك أخرى يتسم صوتها بأجواء الطفولة والبراءة مثل الأكسيليفون وأنواع ثالثة يتسم طابعها الصوتي بالشجن النسبي مثل الكلارينيت والأوبوا والفاجوت، ورابعة بالبهجة والفرح والتألق وأصوات العصافير مثل آلة الفوت الكبير والصغير، خاصة عند عزف النوتات السريعة ومتوسطة السرعة، وخامسة يتسم صوتها بالعمق والحزن مثل آلة الفيولينتشيللو وهذا ما يجعل التعرف على أصوات الآلات الموسيقية والبشرية والتمييز بينها من أساسيات التذوق الموسيقي.
جمعت فراج ثلاثين نوتة موسيقية لأعمال غنائية شهيرة حيث حللت سرديا عناصر كل أغنية وعلاقة أجزائها ببعضها، وذلك باستخدام عدد من النظريات النقدية مثل النقد التفسيري أو التقديري والنقد السياقي والنقد التحليلي، وقد خصصت الفصل الأول لتحليل مجموعة من الأغنيات العاطفية وتضمّن إحدى عشرة أغنية لأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ ووردة ومحمد عبدالمطلب، بينما خصصت الفصل الثاني للأغنيات الوطنية، ثم تطرقت في الفصل الثالث إلى تحليل مجموعة من أغنيات المناسبات التي نسمعها في المناسبات السنوية أو المرتبطة بأحداث تاريخية محددة مثل أغنيات “رمضان جانا، مرحب شهر الصوم، يا ليلة العيد آنستينا، عندي خطاب عاجل إليك”.
وفي الفصل الرابع تناولت الباحثة “أغنيات ذات طابع خاص”، حيث تناولت أغنيات لها جانب فلسفي مثل رباعيات الخيام لأم كلثوم، أو أخرى تتغنى بالطبيعة مثل “يا بدع الورد” لأسمهان حيث رأت أن هاتين الأغنيتين لهما طابع خاص بعيدا عن التصنيف الواضح للأغنيات السابقة.