ياسر رزق صحافي مقرب من السيسي ومُنظر دولة 30 يونيو في مصر

تلقيت مع الساعات الأولى من صباح الأربعاء خبر رحيل الصحافي ياسر رزق، رئيس مجلس إدارة مؤسسة “أخبار اليوم” السابق، وكنت أستعد لتحديد موعد لإجراء حوار صحافي معه اتفقت عليه معه خلال لقائنا الأخير على هامش منتدى شباب العالم الرابع في شرم الشيخ الذي اختتم منذ نحو أسبوعين. فقد بادرته وقتها بعتاب بشأن الحوار الذي أرجأه أكثر من مرة لظروفه الصحية الحرجة.
تقبل عتابي بصدر رحب ووعد بإجراء الحوار في أقرب فرصة، ودعاني إلى حفل توقيع كتابه في دار الأوبرا الذي صدر قبل أيام قليلة من رحيله، ويتناول فيه قصة ثورة الثلاثين من يونيو 2013، حيث كان قريبا من قيادات عسكرية كبيرة، في مقدمتها عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع في ذلك الوقت.
لبيت الدعوة وحصلت على نسخة كتب عليها إهداءً قال فيه “العزيزة هبة ياسين.. هذه شهادتي عن تلك السنوات، أرجو أن تلامس شاطئ الحقيقة.. كل المودة”.
بين الغضب والخلاص
☚ "سنوات الخماسين" كتاب رزق الذي صدر قبل أيام قليلة من رحيله، يتناول فيه قصة ثورة الثلاثين من يونيو 2013، حيث كان قريبا من قيادات عسكرية كبيرة، في مقدمتها السيسي وزير الدفاع في ذلك الوقت
رفض القدر أن يرحل رزق قبل أن ينتهي من تأليف كتابه الذي كان يسابق الزمن لإصداره، كأنه كان يشعر أنها شهادته الأخيرة للتاريخ والأجيال القادمة، لذا كان حفل إطلاق الكتاب أشبه بوداع لشخص ترك أثرا لدى الكثير من محبيه وتلاميذه.
يتناول رزق في “سنوات الخماسين.. بين يناير الغضب ويونيو الخلاص”، أحداث الفترة منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 وحتى ثورة الثلاثين من يونيو 2013 في مصر، ولم يعتبر مؤلفه سرداً غيبيا لأحداث جرت إنما شهادة كتبها من قلب المشهد السياسي وعن حقيقة زلزال يناير وتوابعه وبركان يونيو وروافده.
روى كيف سقطت “الجمهورية الأولى”، ويقصد جمهورية ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952، ولماذا انهارت وكيف وثبت جماعة الإخوان إلى الحكم بالخديعة وروجت لـ”جمهورية السراب حينما تعذرت الرؤية وسط غبار رياح الخماسين”، ورصد الإرهاصات الأولى للمشروع الوطني لبناء الدولة الحديثة والانتقال نحو تأسيس جمهورية جديدة، هى جمهورية الثلاثين من يونيو.
مشروع لم يكتمل
كان من المخطط أن يكون الكتاب جزءا من ثلاثية تصدر تباعا عن الجمهورية الثانية التي أسسها الرئيس السيسي، لكن لم يمهله القدر للانتهاء من مشروعه التوثيقي، وخلال حديثه على هامش توقيع كتابه أكد أن هذا جزء أول لسيرة مصر خلال العقد الثاني في القرن الحالي، وأنه شرع في كتابة الجزء الثاني من الثلاثية.
قال أمام جمع غفير من الحاضرين إن من واجبه كتابة زاوية الرأي التي رآها، ولم يكتب كل شيء لأن بعض الوقائع تخصه وتخص طرفاً آخر، قد يكون في سلطة الحكم، ولا يفضل أن يظهر أنه على علاقة وثيقة به، وهي الأشياء التي حاول استبعادها لأنه لا يريد إرسال صورة بها قدر من الحقيقة قد تفهم منها أشياء أخرى.
حرص على أن يكون أمينا في شهادته والتعليق عليها، وما فهمته أن رزق لم يكن يريد أن يعتقد البعض أنه يحاول استغلال قربه من رجال في مقاليد السلطة، وهي الحقيقة التي يعلمها كثيرون، بصرف النظر عن كون من بين الرجال الرئيس السيسي أم لا، فالرجل جعل شهادته بعيدة عن أية تفسيرات خاطئة.
وقد نعته القيادة العامة للقوات المسلحة في بيان لها ووصفته بأنه أحد رواد الصحافة أن حياته المهنية اتسمت بمسيرة عطاء فى خدمة قضايا الوطن.
صارع نوعا خطيرا من سرطان الرئة وهزمه، لكنه فشل في مقاومة وهن قلبه، حيث عانى من مضاعفات صحية استلزمت إجراء جراحة في قلبه العليل ظل يؤجلها لارتباطات شخصية وأخرى عامة.
بنبرة يغلفها الحزن الشديد، هي أقرب إلى الفضفضة حكى عمرو الشوبكي الخبير بمركز “الأهرام للدراسات الاستراتيجية” جانبا من مآثر صديقه الراحل منذ المرحلة الجامعية، أهمها أنه لم يتغير أو يتلون طوال حياته، ولم تبدله المواقع والمناصب وظل يتعامل مع أصدقائه بنفس المحبة، وامتلك قناعات عبر عنها كثيرا في كتاباته وحواراته، قد يختلف البعض أو يتفقون، لكنه بقي مخلصا شديد العطاء لأصدقائه وتلاميذه وبالطبع لوطنه.
أصر رزق في ظل حكم الإخوان على أن يؤازر الشوبكي ويعلن دعمه وتأييده له في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2012 وخاضها في مواجهة القيادي الإخواني عمرو دراج، في وقت انحاز كثيرون لدعم مرشح الإخوان، فقد كان رزق على يقين أن المستقبل في مصر لن يكون للإخوان.
سقوط "الجمهورية الأولى" يتتبعه رزق بالتفصيل، ويقصد بها جمهورية ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952، ويبين لماذا انهارت وكيف وثبت جماعة الإخوان إلى الحكم وروجت لـ"جمهورية السراب"
كان من القليلين الذين حافظوا على إخلاصهم للمقربين منهم مهما علت مراتبه أو تضخمت مناصبه، ومهما كانت درجة قربه من السلطة، ولم يتخل عن إنسانيته التي ظلل بها من حوله، ورحل بعد أن ترك بصمة مهنية في مؤسسة “أخبار اليوم”، ومحبة وتقديرا من زملائه وتلاميذه ورفقاء دربه حتى من المختلفين معه سياسيا، وهو ما ظهرت تجلياته في عبارات الرثاء التي تراكمت بعد الوفاة.
كنت شاهدة عن مواقف إنسانية قام بها حيال زملاء وأصدقاء من الشباب أعرفهم، بينهم من كانوا يحملون وجهات نظر مختلفة عما اعتنقه الراحل، وبعضهم ينتمون إلى معسكر معارض للسلطة الحالية التي أيدها بقوة، وتعامل بإنسانية طاغية معهم وآزرهم وحال دون ضياع مستقبل بعضهم أو المساس بهم بسبب مواقف سياسية، وأخرى تدخل فيها للإفراج عن معتقلين وساند عائلاتهم أثناء وجودهم داخل السجن.
دافع بإخلاص ونزاهة عن حقوق الصحافيين، لذا يعتبره كثيرون ومنهم من اختلفوا مع مواقفه السياسية، أنه برحيله كسر أحد الأقلام الوطنية وهدم أحد جسور التفاهم مع السلطة، إذ كان حلقة أمينة في التواصل بين الجانبين.
وقد لامست قبل سنوات مواقفه النبيلة مع أحد المعتقلين الشباب، وهو الزميل الصحافي محمد العراقي الذي اتهم في إحدى القضايا السياسية خلال حكم جماعة الإخوان، فشدت الحاجة فاطمة عبدالهادي (والدة العراقي) الرحال من محافظة الشرقية في دلتا مصر إلى مقر عمل رزق في القاهرة، وبثت إليه ألمها وشكواها، وتبنى قضية ابنها وتعاطف معه، ولم يتخل عنه حتى تمكن من الإفراج عن الشاب بعفو رئاسي عام 2016.
كشف العراقي جانبا من علاقته برزق بالقول “خرجت من السجن تائها وظننت أن مستقلبي ضاع، فوجدت يده ممدودة لمساعدتي لتفتح لي أبواب الأمل، ودعمني وأعاد الثقة في نفسي ومنحني فرصة التدريب في الأخبار ثم التعيين بعدما أثبت جدارتي، فقد رفض بإنسانيته المعهودة أن يضيع مستقبل شاب مثلي”.
وسرد محمد عادل وهو صحافي في “الأخبار” أنه مر بكثير من الأزمات المهنية التي كادت تطيح به ودعمه رزق وساعده في محطات فارقة في حياته، وتجاوز أزمات كبرى ما كان ينجو منها لولا تدخله الحاسم بصفته رئيس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم، ورفع عنه عقوبات قاسية بسبب آرائه السياسية، ورد إليه اعتباره المادي والمعنوي وأعاده إلى عمله.
اعترف عادل أن دموعه لم تجف منذ سماع خبر رحيل رزق، وأضاف “على الرغم من اختلافى السياسى معه إلا أنني أحببته لمواقفه الإنسانية التي لا تنسى، فقد رفع عني عقوبات وقعها أحد رؤسائي علي بعدما احتدم الخلاف بيننا على وسائل التواصل الاجتماعي بكتابات وإسقاطات مشتركة فيها هجوم متبادل، وكانت النتيجة تحقيقات فى إدارة الشؤون القانونية وخصومات مالية على مدار عامين”. تدخل رزق ورد إليه مستحقاته المالية بأثر رجعي، ورد اعتباره بترقيته إلى درجة رئيس قسم، كما أنقذه من محاولة اعتقال على يد الأمن أمام مقر عمله بمؤسسة “أخبار اليوم” على خلفية بعض المنشورات السياسية التي نسبت إليه وأزعجت الأمن، وسمح له بدخول مقر عمله بعد انتهاء مدة إيقافه الرسمية.
شرف الخصومة
كان رزق شريفا في خصومته السياسية مع كل من اختلف معهم أو ناصبوه العداء، بينهم عناصر في جماعة الإخوان، ولم يترفع عن الاعتذار على مانشيت جريدة الأخبار في عام 2016 أثناء رئاسته لتحرير الجريدة وحمل عنوان “المرشد اتفتق”، تعليقا على خضوع مرشد الجماعة محمد بديع لعملية فتاق في البطن.
قدم رزق اعتذارا في اليوم التالي، حوى اعترافا بأن العنوان كان يعبر عن نوع الجراحة لكن بصياغة بها قدر من الإثارة الصحافية، ووجد البعض فيه شماتة وهو ما لم يقصده بأي حال وليس من طبائعه الشخصية، بينما فهم منه البعض أنه تعريض شخصي بالدكتور محمد بديع وهو ما يحرص طوال حياتي المهنية على العزوف عنه، فضلا عن أن الشماتة والتعريض ليسا في قاموس جريدة الأخبار.
ولد رزق في محافظة الإسماعيلية، وهي إحدى المدن الواقعة على قناة السويس عام 1965، وتخرج في كلية الإعلام جامعة القاهرة، وكان من النجوم النابهين لدفعته التي ضمت عددا من كبار رجال الإعلام في مصر حاليا، ووالده الصحافي فتحي رزق الذي توفي مبكرا خلال الدراسة الجامعية لابنه.
التنوع الذي يضم كل الاتجاهات والأفكار والآراء السياسية كان هاجس رزق في عمله الصحافي، فقد حرص على إقامة مظلة تجمع تيارات مختلفة على أرضية وطنية
عمل محررا عسكريا ومحررا لشؤون رئاسة الجمهورية في جريدة “الأخبار” على مدار 22 عاما، وعُين رئيسا لتحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون، ثم تولى رئاسة تحرير “الأخبار” قبل أسبوع من اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير، وعزله نظام الإخوان، وتولى بعد ذلك رئاسة تحرير جريدة “المصري اليوم” الخاصة، ثم عاد رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة “أخبار اليوم” ورئيسا لتحرير جريدة “أخبار اليوم” مطلع 2014، وأسس منتدى أخبار اليوم للسياسات الذي حُل بعد رحيله عن منصبه في المؤسسة.
كان حريصا خلال توليه رئاسة كل مؤسسة صحافية على وجود تنوع يضم كل الاتجاهات والأفكار والآراء السياسية، وحرص على إقامة مظلة تجمع تيارات مختلفة على أرضية وطنية، وحقق المعادلة الصحافية الصعبة لأي مطبوعة تولى رئاستها من حيث اتباع المهنية والوصول إلى عقل الجمهور.
من أهم ما ميزه غزارة مصادره ومعلوماته وقدرته على التحليل وانفتاحه على جميع الألوان السياسية إلا جماعة الإخوان التي ناصبها العداء، وساعدته هذه المسيرة على الاقتراب من دائرة صناعة القرار مستفيدا من عمله كمحرر عسكري.
علاقة وثيقة مع السيسي
خصه السيسي عندما كان وزيرا للدفاع بأول حوار صحافي، كأول إطلالة إعلامية له ونشر في جريدة “المصري اليوم” في السابع من أكتوبر 2013، ولم يرفض الإجابة عن أي سؤال وكشف عن الكثير من تفاصيل ما حدث قبل ثورة الثلاثين من يونيو.
توثقت علاقة رزق مع السيسي، وكانت كتاباته ومقاله الأسبوعي في جريدة الأخبار وأحاديثه التلفزيونية المتعددة مصدرا لمعرفة توجهات السلطة في مصر وخططها المستقبلية، واعتبر من الدائرة الضيقة المقربة من الرئيس السيسي، ووصفه البعض بأنه “مُنظر دولة 30 يونيو”، إلى الدرجة التي جرى تشبيه علاقته به بعلاقة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر مع الصحافي محمد حسنين هيكل.
كان رزق قد فاز بمقعد في مجلس نقابة الصحافيين في انتخابات 1999، وكانت مواقفة المهنية والنقابية المشرفة داخل المجلس وخارجه واضحة، وخلال أزمة اقتحام قوات من الشرطة المصرية لمقر نقابة الصحافيين عام 2016، جاهر برفض هذه الطريقة ووصفها بالكارثية، محذرا من تبعات وخطورة هذا الموقف.
وجاء وداع رزق الخميس مظاهرة حب وامتنان لراحل أظل الجميع بعطائه ومحبته، وشهد العديد من الزملاء بمهنيته وإنسانيته التي طغت على كل اختلاف، ولذلك ضمت الجنازة الكثير من محبيه وعددا لا بأس به من خصومه السياسيين.