وهم العقل المصري
كرّس طه حسين في كتابه الشهير (مستقبل الثقافة المصرية) وجهة نظر تنطلق من فرضية اعتباطية تؤكد أن العقل المصري ليس عقلا شرقيا، وأكثر من ذلك فإنه قد صرح بشكل واضح قائلا بأن هنالك تأثيرا متبادلا بين العقل اليوناني والعقل المصري مبرزا أن الأول هو الذي تأثر بالثاني في بدايات التلاقح الحضاري بين مصر وبين اليونان.
في هذا السياق ينبغي التذكير بأنَ الدكتور طه حسين لا ينفي تأثير الكلدانيين على اليونان أيضا وكذلك تأثير فضاءات حضارية أخرى -على امتداد حوض المتوسط- في تشكيل بعض أسس الحضارة الإغريقية.
من جهة أخرى يحدّد الدكتور طه حسين بكل وضوح مرجعية العقل المصري بالجوار المتوسطي وليس بالجوار العربي/ الشرقي. وفضلا عن ذلك فإنه ينفي أن يكون الشرق البعيد (الأقصى) قد لعب دورا في تشكيل هوية العقل المصري.
ولكي يبرر موقفه وأطروحته فإن الدكتور طه حسين يحاجج بأن المسلمين منذ عهد بعيد قد عدلوا عن اتخاذ الوحدة الدينية واللغوية أساسا للملك وقواما للدولة ويعني هذا أن دكتورنا طه حسين يستبعد السجل الرمزي بكل عناصره الروحية واللغوية كمكونات لهوية العقل، وكذلك لتجلياته في الزمان والمكان.
هنا أريد القول بأن طه حسين يحدّد هوية مصر بالماضي التاريخي البعيد فقط في الوقت الذي يغفل فيه عن تأثيرات الثقافة العربية/ الإسلامية وغيرها من الثقافات التي كان لها تماس أو جوار معرفي معها ودورها المهم في المساهمة الفعلية في تشكيل أجزاء من قسمات العقل المصري الحديث والمعاصر. ونتيجة لهذا الموقف فإن المعيار لدى طه حسين هو الماضي البعيد وليس التحوّلات التاريخية المتشابكة والمتنوعة عبر التزامن التاريخي المركب.
رغم هذا الموقف الذي اتخذه في ذلك الزمان طه حسين فإنه لم يتهم حين نشر كتابه المذكور أعلاه بأنه من دعاة عرقية أو انعزالية العقل المصري، والسبب في ذلك هو أن بلداننا في ذلك الوقت كانت لها قضايا وطنية مصيرية تتمثل في الكفاح التحرّري ضدّ الاستعمار الأوروبي وأن المواطنين عندنا كانوا حينذاك متحلقين حول البعد التحرّري من الاستعمار الأجنبي حيث كان مفهوم الهوية جزءا عضويا من هذا البعد النضالي وليست مختزلة في العرق أو الإثنية المغلقتين على نفسيهما.
ومن الواضح أيضا أن التسامح الفكري في زمان الدكتور طه حسين كان أكثر حضورا وقوة في بلداننا مما عليه الوضع الآن، حيث نرى في مجتمعاتنا نزعات فرق تسد وتستول على الحكم والثروة.