وليد علاء الدين: أرسم كما أكتب فالعين التي ترى هي اليد التي تكتب وترسم

يمتلك الفنان المصري وليد علاء الدين مواهب عديدة، لكنه يتعامل معها جميعا كاللعبة، فهو يعتبر اللعب كنزا مهما، وطالما تشبه به الإنسان يصير قادرا على الإبداع والخلق والتعامل مع الحياة ببساطة وابتكار، ويتمكن من تحرير ذاكرته وخلق عوالم ثرية ترسم له هوية مميزة.
وليد علاء الدين، شاعر وكاتب مسرحي وروائي وفنان تشكيلي مصري، استطاع أن يزاوج بين ألوان شتى من الإبداع، بجانب عمله في مجال الصحافة الثقافية، وانشغاله بهموم التراث لسنوات طوال خلال عمله مديرا لتحرير مجلة “تراث” التي تصدر عن هيئة أبوظبي للتراث، واهتمامه الحالي باللغة وقضاياها، وحضوره الدائم في الكثير من الندوات والفعاليات المعنيّة بالثقافة والآداب والفنون في دولة الإمارات العربية المتحدة والعالم العربي.
في هذا اللقاء الذي جمعنا به في العاصمة الإماراتية أبوظبي، يتحدث لـصحيفة “العرب” عن تجربته الخاصة مع الفنون التشكيلية، والعلاقة بين تلك الفنون ومجالات الإبداع الأخرى.
مواهب متعددة
اندفع علاء الدين مؤخرا في عوالم الفن التشكيلي فقدم خلال سنوات قليلة كما ونوعا تجربة تستحق التوقف أمامها، وفي توضيح للدوافع التي انتقلت به من عالم الشعر والمسرح والرواية إلى عالم التشكيل، يقول الفنان المصري “هل تعرف لاعب الكرات؟ هذا الرجل الذي يتلاعب بمجموعة من الكرات بين أصابعه، يُلقي بها في الهواء متتابعة، ويلتقطها متتابعة؟ هناك دائمًا كرة بين يديه، للحظات، وكرات أخرى في الهواء، بعضها في الطريق إلى يديه، وبعضها في طريقها بعيدًا عنه، لتعود بعد قليل في اتجاهها نحو اليدين.. في تبادل للأوضاع يستمر طوال الوقت. اللاعب الماهر من هؤلاء، يُضيف -كل فترة- كرةً إلى ما يلعب به من كرات، ليس لإدهاشنا، في ظني، ولكن لمتعته الشخصية، وطمأنة نفسه بأن مَلكاته وقدراته في وضع جيد، وأن بمقدوره أن يقضي بقية العمر، قصر أو طال، منشغلًا، ومُنتجًا، ولاعبًا، ومتحركًا. قد تراه، بينما يتلاعب بالكرات، يدخن، أو يرسم، أو يلاعب أولاده، أو يصنع فنجانا من القهوة، ليثبت لنفسه، وربما ليقول لنا: أنا لا أقدم عرضًا، هذه هي حياتي العادية. أو هذه هي طريقتي -الجادة جدا- للعب وسط الحياة”.
ويضيف “أحب هذا اللاعب بالكرات. أعرف كراتي، وأزيدها، كلما تسنى لي ذلك: أقرأ وأكتب لأنني لا أستطيع التخلي عن القراءة والكتابة، حتى الآن على الأقل. أتمرن يوميًا، بشكل منتظم، على العود، فهو كرتي الموسيقية. التصوير بالكاميرا كرتي البصرية، تسجيل التعليق الصوتي على الأفلام الوثائقية والكتب المسموعة كرتي الصوتية، الرسم كرتي الحِرَفية التي تحقق رغبتي منذ الطفولة في العمل في مهنة يدوية، فطالما أحببت أن أكون نجارًا أو نحاتًا أو صانع فخار”.
ويحكي لنا وليد علاء الدين عن اللحظة الفارقة التي جعلته يفكر في إضافة الرسم إلى الكرات التي يتلاعب بها، فيقول “صحيح، في أعقاب نشر روايتي ‘كيميا’ عام 2020، انتابني شعور بالفقد، كأنني افتقدت صديقًا أو رفيقًا ظللت أبثه همي وقلقي، وأحاوره سنوات، ثم حدث وأن أُغلق باب الحوار فجأة، وانتهى النقاش والبحث، ولم يعد الصديق يخصني! حاولت الانتهاء من مشاريع كتابة معلقة، إلا أن شعور الخواء كان أشد وطأة مما تخيلت. انتهيت -بحيلة ما- من روايتي ‘الغميضة’ ودفعتها للنشر؛ فخلا مكانٌ لكرة الرسم وهبطت إلى يديَّ وسيطرت، بلا وعي في البداية، لكنني لاعب أحترم قواعد اللعب، ولا أؤمن بالموهبة باعتبارها عين ماء تتفجر بلا حفر، أؤمن بالمَلكات والقدرات، والأخيرة تستدعي الاختبار والمران والدرس والدأب… ولا بد أن تحظى كل كرة بوقت كاف حتى تقرر إن كانت تخصك وسوف تستمر في اللعب بها، هو ما أقوم به حتى اليوم”.
أما عن علاقتك باللوحة والفرشاة والألوان، فيوضح أن “الرسم ليس كرة منقطعة الصلة عن تكويني. فهو جزء من طفولتي، يغلفه عندي شعورُ حنينٍ جارف للماضي، لأبي -رحمه الله- تحديدًا. كان كاتبًا أديبًا ورسامًا. كانت طفولتنا معه -نحن أولاده الذكور الثلاثة- ورشة مفتوحة لتوريث المهارات، ننقل رسوم المجلات المصورة، إلى كراساتنا بأقلام الرصاص، ثم نلونها. نتبارى في مهارات الخط والكتابة ورسم الوجوه، صناعة المصابيح الزيتية من قشور اليوسفندي، صناعة ألبومات لمختاراتنا من الصور وقصاصات الأشعار، نلصقها بماء النشاء في كراسات المدارس المنتهية. فنيات الطباعة بواسطة قوالب الصابون، صناعة الرسوم المتحركة عبر رسومات متكررة مع اختلافات متدرجة على أحرف الكراسات الورقية، مباريات رسم الوجوه والمناظر الطبيعية.. وغير ذلك”.
ويتابع “عندما نصل إلى عمر معين -هكذا أعتقد وقد أنهيت العقد الرابع- نفكر في آبائنا طويلا، ونتذكرهم. أتذكر مثلا حتى الآن كفّ أبي، ولأنه كان خجولًا بطبعه لظروف نشأته الصعبة بلا أب، لم يكن يحتضننا كثيرًا. كنت أشعر بدفقة الاحتضان في لمعة عينيه، وفي كفه وهو يصافحني. عندما استعدت الرسم، رسمت، أول ما رسمت، كفَّ أبي، حاولت بقلم الرصاص كشف ملامح الدفء فيها، عبر العروق والأوتار ومسام الجلد. بينما أرسم انتبهت إلى أن هذه الكف تسربت من قبل إلى الرواية وبعض نصوص الشعر. لم أكن واعيًا آنذاك، إلى أنها كف أبي، كما حدث مع الرسم”.
لعبة ممتعة
يشير الفنان إلى أنه “مع الدأب على إيقاظ المَلكة النائمة، ومعاونتها بما تحتاجه من أدوات، صارت اللعبة ممتعة لأنها تكشف لي مع كل محاولة زاوية جديدة من زوايا المخيلة، ما كانت الكتابة ولا التصوير الفوتوغرافي ولا الموسيقى -وهي ألعاب قطعت معها شوطاً- بقادرة على كشفها. ومع التكرار والدأب نمت القدرة على تحويل المخيلة إلى رسمة -باستخدام الضوء والظلال والألوان- أقرب في كل مرة إلى ما تكتنزه المخيلة. هذه الطريقة -في رأيي- هي التي تُكسب التجارب ميزاتها وخصوصياتها، ومتعتها الذاتية قبل كل شيء”.
وفي وصفه لملامح تجربته والمدارس الفنية التي ينتمي إليها، يقول علاء الدين “تجربتي ببساطة امتداد لحالة البحث المستمر عن وسيلة تعبير أقتنص عبرها مخيلتي وأشاركها. أما المدرسة الفنية التي أنتمي إليها فهي كما قلت مدرسة اللعب، هذا الكنز الذي كلما تقدمت في العمر بذلت جهدا أكبر للتشبث به. ولا أعرف لماذا يبدو مصطلح اللعب في ثقافتنا سيئ السمعة إلى هذا الحد! لقد حمَّلناه إسقاطات قراءات تاريخية ودينية، بينما هو الفعل الأقرب لروح الإنسان طفلا وشابا وكهلا وشيخا. اللعب هو هذه الفرصة المفتوحة لاستخدام الملكات والقدرات والمزايا الفردية في أداء المهام والأعمال صغرت أو كبرت، اللعب هو أن تشعر بأنك حر في استخدام إمكاناتك وملكاتك والتجريب في كل الزوايا، حتى وإن كان ما تقوم به مشروطا بشروط ومعايير دقيقة، بداية من لعبة طاولة الزهر، إلى كرة القدم، هل تقلل المعايير من حرية اللاعبين؟ بالعكس إنها تدعوهم للتألق في حدودها واستثمار ملكاتهم للتقليل من أثر القواعد على حريتهم ونجاحاتهم”.
الرسم لمن يكتب أدبًا، وسيلة تأمل مذهلة في تفاصيل العالم المصنوع بمهارة وبساطة من الضوء والظلال والألوان
ولا يتخوف وليد علاء الدين من أن يطغى الرسم على تجربته في الكتابة الأدبية من شعر ومسرح ورواية، ويقول “كلها كراتي التي ألعب بها، ولكي تظل في حوزتي لا مفر من الاستمرار في تدويرها دائمًا بين الهواء وبين يديّ. وطالما أحببت ذلك فالحركة هي الحل، اللعب هو المفر، يستحيل جمع كل الكرات معاً، لن تستوعب اليدان أكثر من كرتين، وهو ثبات لا يتفق مع الرغبة في استمرار اللعب باعتباره مرادفا للحياة، فلا مفر من استمرار العرض إذن. ليس عرضا أقدمه لأحد، هي ألعابي، وبتعبير محتشم: هي طريقتي في الحياة والتواصل. قد تختفي كرة لفترة، أكون ألقيتها بعيدا لأمنح الوقت لكرات أخرى، لكنها سرعان ما تظهر، وربما تُسيطر، تأثرًا بمزاجي، أو بحالتي النفسية، أو هروبًا مؤقتًا من توقف في لعبة الكتابة، وهو الوصف الأقرب لما حدث معي مؤخرًا فدفعني إلى اقتناص مخيلتي بالرسم”. ويعتبر أن “الرسم لمن يكتب أدبًا، وسيلة تأمل مذهلة في تفاصيل العالم المصنوع بمهارة وبساطة من الضوء والظلال والألوان”.
أما عن العلاقة بين الشعر والقصائد وكل ألوان الكتابة الإبداعية وبين اللوحة والفرشاة والألوان، فيقول “العين التي ترى، هي اليد التي تكتب وترسم، وتعزف. الحوائط بين كل هذه الممارسات وهمية. نتخيلها فترتفع، أو نتجاهلها فتختفي، وعندها يمكنك أن ترى الموسيقى أشكالًا من الضوء والظل، وترى الأفكار المكتوبة أو الظل والضوء والألوان جملا موسيقية، وبقدر الدأب على محاولة تمثيل مخيلتك في وسيط قابل للمشاركة: كتابة، موسيقى، رسم، رقص، وغيرها من الفنون، تتشكل ملامح تجربتك في هذا الوسيط وتتأثر بمدى إلمامك بغيره من الوسائط. الرسم، مثله مثل الموسيقى، مثل التصوير، مثل الكتابة، مثل الكلام، مثل الرقص، هي امتداد لما يدور في العقل، انعكاس للتفكير، كلها ممرات لاقتناص الخيال، وتحويله إلى وسائط يمكن مشاركتها مع الآخرين”.
حالات من الذاكرة
ليس لدى هذا الفنان موضوع مفضل في الفن التشكيلي، فهو يؤكد “أرسم بمنطق اللعب المحض، أحيانا تستغرقني فكرة فأظل أراودها، أو لون فتجدني أكرر تجاربي معه، أو تركيبة ألوان، أو زاوية نظر إلى الأشياء فأكرر محاولات اللعب معها إلى أن أحقق قدراً من الرضا المؤقت، أو يصيبني الملل. أحيانا أنشغل بفكرة تجريب مواد من محيطي كخامات للرسم: أوتار عودي القديمة، علب فارغة، أوراق تنشيف جففت بها الأحبار، زهور متيبسة، خزف مكسور، وغيرها. وهكذا، كما بدأت بمحاولة رسم كف أبي، انتقلت إلى وجوه وأعين بعض الأصدقاء، ثم بورتريهات ومجموعات من الوجوه تحاول تجسيد حالات عالقة في الذاكرة ومتجسدة في المخيلة. ستجد البحر حاضرا، أحب رسم الصخور وسط المياه، وأحب رسم تفاصيل الجبال بألوانها وتعرجاتها، أحب ما توفره النباتات والأعشاب من حركة ظلال وأضواء، ستجد الكثير من السحب في سماوات اللوحات، أحببت حرف الهاء مثلاً فصار جزءًا من اللعبة يحضر خجولا أحيانا أو طاغيا في أحيان كثيرة، أحببت لعبة سقوط الضوء على الأشياء فحاولت اقتناصه في كم كبير من التجارب بكل ما أتيح لي استخدامه من مواد شمعية وزيتية ومائية وأقلام”.
ويشرح “لا أضع مخططا مسبقا لما أرسمه، إلا فيما ندر، أبدأ علاقتي باللوحة والألوان مثل جلسة نقاش، أو جلسة مفاوضات أطرافها الخامات والألوان وأدوات الرسم والسطح المعد لاستقبال الفوضى، نتبادل وجهات النظر ونستغل نقاط ضعف وقوة بعضنا البعض… وبينما يتطور النقاش تتضح ملامح الطريق وتتغير وتتبدل السكك إلى أن تنتهي اللعبة. هذه الحالة في ظني تسمح باستدعاء مخزون المخيلة بحرية أكبر مما يسمح به الرسم عبر مخطط معد أو تصور مسبق”.
أما عن موقع المرأة في الحركة التشكيلية العربية وما هي مكانتها، ومدى قدرتها على منافسة الرجل، فيقول علاء الدين “لا أدعي الإلمام بالحركة التشكيلية، ولكن رأيي أن المرأة في أصل تكوينها البدني والنفسي هي الأقرب إلى مفهوم الخلق والإبداع، بمعنى تقديم إضافات وابتكارات والنظر من زوايا جديدة، وليس الرجل. وبعيدا عن الإشارة إلى تجارب بعينها، ستجد أن تجربة كل امرأة في مجالات الفنون، توفر لها ما يتوفر للرجل من تفرغ، بها ما هو أعمق وأرق وأصدق من تجربة الرجل. ليس عربياً فقط، ستجد هذا الأمر متحققاً إلى حد مذهل في كل ثقافات العالم”.
وفي إجابة عن مدى قدرة الفنان التشكيلي العربي على العيش من نتاج فنه كمصدر رزق له، يقول الفنان التشكيلي المصري في ختام حواره معنا “هذا سؤال يفوق مساحة اهتمامي، ولكن فكرة السوق تختلف كثيرا عن لعبة الفن، ولا يجد الفن فرصة في السوق إلا إذا تحول إلى بضاعة، لها زبائن ولها باعة. مواصفات وشروط البضاعة تُصنع خارج منطق الفن واللعب، وليست حكما قيمة فنية في معظم الأحوال”.