وفاة صباح فخري توحد المعارضة والموالاة

اختلف السوريون مع نظامهم السياسي ومع بعضهم بعضا ولم يختلفوا على صباح فخري الذي كان قد شغل مناصب حكومية لكنها لم تغيّر من سحر صوته ومكانته في قلوب السوريين على مختلف مللهم.
الجمعة 2021/11/05
الفن عابر دائما لحدود الأيديولوجيات والاختلافات

صباح فخري الذي نعت وفاته كل الأطراف السورية من موالاة ومعارضة، هل يمكن يثير انتباهنا إلى أمر طالما استهترنا به في العالم العربي، وهو ما يمكن تسميته بـ”دبلوماسية الفن”.

كان صوت صباح الدين أبوقوس (صباح فخري)، المعروف لدى العائلة والمقربين منه بـ”أبومحمد” عابرا للحدود الطائفية والمذهبية والجغرافية داخل البلاد السورية وخارجها طبعا، وإن كان يتمسك بحلبيته على سبيل الأصالة والإخلاص لفن القدود الذي تمثل المدينة التي مزقتها الحرب، مهده الحقيقي بلا منازع.

اختلف السوريون مع نظامهم السياسي ومع بعضهم بعضا، ولم يختلفوا على صباح فخري الذي كان قد شغل مناصب حكومية كعضوية البرلمان ورئاسة نقابة الفنانين، لكنها لم تغيّر من سحر صوته، ومكانته في قلوب السوريين على مختلف مللهم ونحلهم.

تلك المناصب والأوسمة والتكريمات، لم تكن تعني لـ”أبومحمد” وللسوريين عموما سوى نوع من تزلّف نظام غير ديمقراطي لقامة بحجم صباح فخري، وليس العكس. أي أن الحكومة هي التي تتقرب منه وتشتري وده كفنان كبير، وليس هو الذي بإمكانه أن يعيش في أي بلد يختاره في العالم بفضل موهبته الخارقة.

ولهذا ليس غريبا أن تسارع المعارضة السورية في الخارج إلى نعيه على قدم المساواة مع أجهزة ومؤسسات النظام في الداخل كوزارتي الثقافة والإعلام ونقابة الفنانين، حتى ذهب بعضهم إلى المطالبة بتنكيس الأعلام حدادا.. ولكن أي أعلام؟ علم المعارضة أم علم النظام؟

وفي هذا السياق، ظهرت من هنا وهناك، على مواقع التواصل الاجتماعي، أصوات تشكك في ولائه للنظام بالقدر الذي تشكك فيه بمساندته للمعارضة، والحقيقة أن الرجل كان في بداية الثمانينات من عمره (مواليد 1933) حين اندلع الحراك السوري فأي مواقف كان سيتخذها فنان لا يفقه في السياسة وقد بلغ من العمر عتيا.

حسبه مواقف إنسانية ونشاطات خيرية سجلها له التاريخ ويعرفها السوريون جميعا، وقد كنت شخصيا شاهدا على ذلك في تسعينات القرن الماضي حين كان يبعث بمساعدات مالية منتظمة وبصفة دورية في الأعياد والمناسبات إلى العائلات المستورة، ويكتفي بالكتابة على ظهر كل مغلف “فاعل خير”.

جيل صباح فخري الذي عانى من انقلابات الخمسينات، وحتى أحداث الإخوان في الثمانينات، ينشد الاستقرار والهدوء النسبي الذي عرفته بلادهم أثناء حكم حافظ الأسد، لذلك لم يكن متحمسا لأي “مغامرة ثورية”. وإن بدا بعضهم شديد الموالاة والتحيز لنظام الحكم كدريد لحام ورفيق السبيعي وعمر حجو، لكن صباح فخري فضّل الصمت على الإدلاء بدلوه وهو الذي لا يفقه إلا في القدود والموشحات.

كل هذا يجعل من صباح فخري “سفيرا مفوضا فوق العادة” بين الموالاة والمعارضة لذلك نعاه الاثنان، لا لحياده السلبي أو الإيجابي بل لسطوع نجوميته وفرادة موهبته التي تخطت كل حدود، وهو الذي وعمل مؤذنا لفترة من الزمن، وقبله كان منشدا في الزوايا الصوفية المنتشرة في حلب، وأهمها الزاوية الهلالية التي خرجت كبار المطربين في أقدم مدينة مأهولة بالتاريخ.

وفاة صباح فخري وتفاعلات المعارضة والموالاة على قدم المساواة مع الحدث، جعلتنا ننتبه إلى ما يمكن أن تفعله الدبلوماسية الفنية والثقافية، فالجميع في سوريا يستشهد بقصائد وكتابات نزار قباني ومحمد الماغوط وممدوح عدوان، وكذلك دراما نهاد قلعي، الذي مات كمدا، وساهمت كتاباته في بروز دريد لحام، طفل النظام المدلل.

ماذا عساه أن تكون مواقف هؤلاء لو عاصروا الحراك السوري الحالي؟ سؤال في ذمة التاريخ، لكن المؤكد أن المبدع الحقيقي دائما على صواب، إلا في ما ندر من حالات تأتي على سبيل الانحناء للعاصفة كما فعل المفكر هيدغر مع النازية.

ربما، وبسبب ذلك شغل شعراء كثيرون مناصب دبلوماسية كنزار قباني وعبدالوهاب البياتي وصلاح ستيتية، كما عرف فنانون في العالم بالوساطات السياسية كفرانك سيناترا وبافاروتي وغيره، دون أن ننسى أن “رابطة محبي صباح فخري” كان يرأسها الدبلوماسي المصري الأسبق عمرو موسى.

الفن عابر دائما لحدود الأيديولوجيات والاختلافات، وفي هذا الصدد يذكر الباحث السوري محمد قجة، أنه وفي رحلة له بالقطار من مدينة أوفا عاصمة جمهورية بشكورستان إلى موسكو لمدة أربعين ساعة، كان في العربة شاب يحمل مسجلة وينطلق منها صوت صباح فخري في تلك البلاد البعيدة. ولما سألنا الشاب كيف وصل الشريط إليه، أبلغنا بعربية ضعيفة بأنهم من التتار المسلمين وأن الروس محتلون، وأنهم في منزلهم يتحدثون قليلا بالعربية ولذلك يحتفظون بكتب وأغانٍ عربية.

9