واشنطن تعبّد طريق الدعم الدولي لقيس سعيد

موقف واشنطن الداعم لقرارات قيس سعيد بشأن "تسقيف" المرحلة الانتقالية أحرق ورقة الضغوط الخارجية بيد حركة النهضة الإسلامية التي كانت تصريحات قياداتها وتحركاتهم توحي بأنهم مدعومون من الخارج.
الجمعة 2021/12/17
على الطريق الصحيح

حمل الموقف الأميركي بشأن خارطة الطريق التي أعلنها الرئيس التونسي قيس سعيد دعما واضحا له في المرحلة الانتقالية التي أعلن أنها لن تمتد لأكثر من عام، وحرره من ضغوط كثيرة داخليا وخارجيا أربكت خططه بشأن إدارة أزمة الفساد وتفكيك منظومات السيطرة الحزبية على الدولة.

كان دعما واضحا ليس فيه أي تلكؤ، خاصة أن ما كانت تطالب به إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هو تحديد جدول زمني للمرحلة الانتقالية من أجل عودة الشرعية إلى المؤسسات، خاصة البرلمان.

وهذا ما يدعم تحاليل تقول إن واشنطن لم تكن ضد الإجراءات الاستثنائية التي قام بها قيس سعيد، وربما كانت على علم بها قبل تنفيذها، وأنها كانت تدعم تغييرا يخرج تونس من أزمة الصراع السياسي الذي لا يتوقف، والذي رهن البلاد لأمزجة الحزبيين وحال دون إجراء الإصلاحات الضرورية لإخراج الاقتصاد التونسي من أزمته العميقة. كما أن هذا الوضع كان سيوفر المناخ الملائم لعودة الجماعات المتشددة إلى الواجهة وتنفيذ عمليات إرهابية شبيهة بما جرى في 2013 وما بعدها.

لقد أحرق موقف واشنطن الداعم لقرارات قيس سعيد بشأن “تسقيف” المرحلة الانتقالية ورقة الضغوط الخارجية بيد حركة النهضة الإسلامية، التي كانت تصريحات قياداتها وتحركاتهم توحي بأنهم مدعومون من الخارج، وواثقون من أنهم سيعيدون البرلمان إلى سالف نشاطه كما سبق أن عبر عن ذلك رئيس الحركة راشد الغنوشي “البرلمان سيعود شاء من شاء وكره من كره” وكررها من بعده قياديون ومتحدثون باسمه.

وجاء البيان الأميركي بعد بيان لمجموعة السبع، وبيان آخر للاتحاد الأوروبي أوحيا بأن الدول الغربية جميعها ضد قيس سعيد، لكن يظل الموقف الأميركي هو القول الفصل، وهو الذي يتم القياس عليه. كما أنه هو ما سيكون بمثابة المفتاح للحصول على دعم المؤسسات المالية الدولية، وهي النقطة التي كانت تقلق قيس سعيد وتربكه في المرحلة الماضية.

تعتقد أوساط سياسية تونسية أن ما بعد البيان الأميركي ليس كما قبله، فقيس سعيد كان يحتاج هذا الدعم سياسيا وعمليا ليتحرك بحرية في تفكيك عش الدبابير بوجوهه المختلفة الحزبية والنقابية والاقتصادية والإعلامية

وقال بيان الخارجية الأميركية “نرحّب بإعلان الرئيس قيس سعيّد عن جدول زمني يرسم مسارا للإصلاح السياسي والانتخابات البرلمانية”، مؤكدا “الالتزام بالشراكة بين الولايات المتّحدة وتونس”.

وتعتقد أوساط سياسية تونسية أن ما بعد البيان الأميركي ليس كما قبله، فقيس سعيد كان يحتاج هذا الدعم سياسيا وعمليا ليتحرك بحرية في تفكيك عش الدبابير بوجوهه المختلفة الحزبية والنقابية والاقتصادية والإعلامية التي كانت تحاصره بالإشاعات والتسريبات وتضغط عليه كي يتوقف حيث هو ليبدو في موضع العاجز والخائف.

لكن من المهم أن تكون الرسالة الأميركية دافعا إلى الأمام في اتجاه تنفيذ الخطوات التي أعلنها الرئيس سعيد، خاصة ما تعلق بالاستفتاء وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة من أجل إعادة الشرعية إلى المؤسسات، فالانتقالي يظل دائما انتقاليا حتى لو كان يمتلك شرعية الشارع ومشروعية الموقف الأخلاقي إلى أن يتحول بالانتخابات إلى أمر دائم ومشروع ومعترف به محليا ودوليا.

وترى الأوساط السابقة أن الفرصة مواتية للرئيس التونسي ليغادر مربع التردد، خاصة ما تعلق بإخراج ملفات الفساد والتمويل الأجنبي ومؤامرات الاغتيال إلى العلن، وتحويل كل التفاصيل والقرائن إلى القضاء من أجل أن يحسم هذه القضايا في أقرب وقت لأن الاستمرار في الغموض سيفضي إلى نتائج عكسية وسينقل الضغوط إلى قيس سعيد نفسه ويمكّن الأحزاب والشخصيات المعنية من أن تقول إن الرئيس لا يمتلك أدلة، وهو يلوّح بها فقط في سياق حملة لشيطنة خصومه.

وإذا تواصل هذا الغموض فسينتقل إلى الشعب الذي من السهل أن تتسلل إليه الشكوك في ظل تواصل الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب، وتركيز الرئيس سعيد كسابقيه على إدارة الأزمة السياسية وإغفال المهمة الأصعب التي من أجلها تظاهر الناس في الخامس والعشرين من يوليو لأجل تحسين أوضاعهم المعيشية.

الحديث المستمر عن عدم أهلية بعض الأحزاب، سواء النهضة أو غيرها، بسبب المخالفات أو تهم تلقي التمويل من الخارج يحتاج إلى اطلاع التونسيين على المعطيات، فمن حقهم أن يعرفوا لأنهم في النهاية حزب قيس سعيد الذين سيخوضون معه معركة تعديل الدستور والانتخابات القادمة. والقانون واضح ولا لبس فيه بالنسبة إلى متلقي الدعم الخارجي، ولو في شكل عقود رعاية، وهذا ما تضمنه تقرير محكمة المحاسبات، فلماذا التأخير في مصارحة الناس بالأدلة.

ومن المهم الإشارة إلى أنه وفق الفصل 163 من القانون الانتخابي يُعتبَر توقيع أحزاب أو شخصيات تونسية لعقود مع مؤسسات دعاية أجنبية أثناء فترة انتخابية نوعا من التمويل الأجنبي.

وينص هذا الفصل على أنه “إذا ثبت لمحكمة المحاسبات أن المترشح أو القائمة قد تحصلت على تمويل أجنبي لحملتها الانتخابية فإنّها تحكم بإلزامها بدفع خطية مالية تتراوح بين عشرة أضعاف وخمسين ضعفا لمقدار قيمة التمويل الأجنبي. ويفقد أعضاء القائمة المتمتعة بالتمويل الأجنبي عضويتهم بمجلس نواب الشعب”.

وسيمكن الموقف الأميركي الواضح قيس سعيد كذلك من البدء بالإصلاحات الاقتصادية المطلوبة بشكل عاجل، وهي التي يحتاجها الشركاء الأجانب بمن في ذلك الولايات المتحدة والصناديق المالية الدولية، وسيساعده على إدارة الخلاف مع اتحاد الشغل وقيادته التي تريد أن تستمر في لعب دور سياسي في المرحلة القادمة، وهو دور كان أحد عناصر التوتير وتوسيع دائرة الأزمة في المراحل السابقة خاصة في ظل حكومات ضعيفة وأحزاب تبحث عن تحقيق مكاسب لأنصارها أكثر من رغبتها في المغامرة بالإصلاحات.

ليس أمام تونس سوى تطبيق برنامج للتقشف القاسي، والظروف الآن مواتية جدا في وجود سلطة قوية وقادرة على اتخاذ القرارات

من المهم أن تبدأ الآن فترة الوضوح التام على مستوى الإصلاحات الاقتصادية، وألا يتم الأمر من وراء الستار، لأجل أن يتحمل الجميع مسؤوليتهم من شركاء اجتماعيين وسياسيين، ويعرف الشعب حجم التحدي الذي ينتظره، ولا يتوهم أن الانتقال السياسي سيحل الأزمة بجرة قلم.

ليس أمام تونس سوى تطبيق برنامج للتقشف القاسي، والظروف الآن مواتية جدا في وجود سلطة قوية وقادرة على اتخاذ القرارات. في السابق كانت الحكومات تتفق مع الصناديق المالية الدولية على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وتحصل على دفعة من التمويل ثم تتراجع عن البدء بأي إصلاحات بسبب الظروف السياسية والاجتماعية.

لكن الأمر اختلف الآن؛ أولا لأن الصناديق قررت ربط التمويل بالإصلاحات، يعني لا أموال قبل التنفيذ، ثانيا لأن البدائل غير متوفرة بالرغم من سعي قيس سعيد للحصول على تمويلات خليجية لتعويض النقص في موازنة 2021 وتدعيم ميزانية 2022.

يضاف إلى كل هذا أن البلاد تحتاج إلى إصلاحات عاجلة، ولم يعد هناك مجال للتأخير. قد يكون الإصلاح تدريجيا، وهو الأقرب من خلال تجميد الزيادة في الرواتب ووقف الانتدابات في المؤسسات العمومية، ثم الاستمرار في تقليص الدعم وبدء خطة لتمكين العائلات الفقيرة من منح قارة مقدمة لرفعه تماما خلال السنوات الخمس القادمة.

تبقى المشكلة في كيفية تطبيق هذه الخطة، هل ستكون مباشرة بقرار من الرئيس سعيد بقطع النظر عن مخاطرها خاصة الاحتجاجات الاجتماعية التي سيتم توظيفها سياسيا، أم سيتم ذلك بالتنسيق والحوار مع اتحاد الشغل؟

الفرضية الثانية هي الأقرب، ومن المنتظر أن يدعم الرئيس سعيد لقاءات الحكومة مع الاتحاد على قاعدة الحوار الاجتماعي مع فصله كليا عن الدور السياسي الذي تريد القيادة النقابية لعبه، وهو أمر ممكن، خاصة أن الاتحاد يلوم قيس سعيد على أنه لا يعتبره شريكا ولم يعد يلتقي به، وقد سعى نورالدين الطبوبي للتمايز عن التحالف السياسي الذي تشترك فيه النهضة من خلال فكرة الطريق الثالث التي تعني أنا هنا بانتظار إشارة منك، فخذني إلى صفك.

9