واحسرتاه على ذبابنا القديم

لم يكن الذباب سائبا طول العام مثل حالنا اليوم، فقط يأتي في فصل الخريف ويتكاثر بسبب أنواع خاصة من الغلال مثل الكرموس (التين) والهندي، وقبل أن تبدأ بشائر الشتاء القارس كان الذباب ينسحب من تلقاء نفسه وبقرار من قيادة عليا فلا ترى لها أثرا بعد عين.
الذباب الآن صار مختلفا، وتراه صباحا مساء طول العام، ويشترك مع الذباب القديم في الارتماء على المزابل والعيش فيها ونقل الأوساخ من مكان إلى آخر.
لكن الفارق أن ذبابنا القديم الذي كنا نطارده بما في أيدينا فنفشل في الإمساك به ونستسلم لأمره كان ذبابا حقيقيا تراه العين.
أما الذباب الذي بين أيدينا فهو كائن افتراضي يعمل عمل الذباب الأصلي ويزيد عليه، كما أنه ليس من جنسه ولا يعمل في أماكن عمله وإن كان يقتدي به في نبش المزابل، ولكنها مزابل اعتبارية بتحويل الجهد والوقت للولوغ في أعراض الناس على طريقة الضباع الجائعة.
الذباب الإلكتروني الذي بات يتحكم في كل حياتنا لا يقف دوره عند المعارك السياسية، وهي اختصاصه الأول في بلد مثل تونس تحولت فيه حرية الرأي والكلام من مكسب جلبته ثورة 2011 إلى عملية هدم منظمة لكل شيء.
الإشاعات السياسية التي كانت في السابق تحتاج إلى الوقت والسرية لتنتشر بين فئة محدودة من الناس مشغولة بالسياسة، صارت الآن تنتشر بسرعة عجيبة، وفي لحظة واحدة ينقلها الذباب إلى الآلاف من سكان فيسبوك، ويشتغل عليها مفسرون ومؤولون ليزيدوها تشويقا وتزويقا فتصبح حقيقة لا تقبل الشك، ولو أصدر المتضرر ألف بيان لدحضها ما غيّر ذلك في الأمر شيئا.
لكل ذباب لونه الخاص، أزرق وأصفر وبرتقالي، وله مركز قيادة ترسل به إلى المزابل متى تريد وتسحبه متى تريد ربيعا وشتاء وصيفا، لا يهمّ الطقس. وتقيم الدنيا وتقعدها لو أن أحدهم يمس جناحا من ذبابة ولو كانت صغيرة لا تكاد ترى، أو عجوزا متروكة.
وقتها يرتفع الصراخ والنحيب على حرية التعبير والإعلام ومكاسب الثورة، ويصير الضحية الذي يريد الدفاع عن سمعته باللجوء إلى القضاء هدفا لحكماء مركز القيادة الذين يذكّرونه بكل الفصول التي تبيح حرية النبش في أعراض الناس وواجب السكوت عليها.
لا يهتم مركز القيادة بالمديح إلا نادرا، ما يهمه هو الهجوم على الآخرين ونشر الوثائق التي تدينهم وتهز كيان أسرهم وثقة الناس بهم وضرب مصالحهم، ولا يهم من بعد إن كانت تلك الوثائق مزوّرة.
ما يهم هذا الذباب الذي يسكن في مدينة فيسبوك التونسية الفاضلة هو التخويف والترهيب ونشر الغسيل، والمزابل التي ينبشها واسعة ولا حدود لها، فيما ذبابنا القديم يتحرك في مربع معلوم ولا يؤذيك سوى بنقل بعض الأوساخ أو بإفساد غفوة القيلولة اللذيذة.