هوية إسطنبول المعقدة تجذب الجواسيس ومافيا القتلة

إسطنبول - في التاسع من أكتوبر الماضي، وصل حبيب شعب، وهو معارض عربي إيراني يعيش في السويد، إلى إسطنبول مخططا لمقابلة امرأة في موعد رومانسي بأكبر مدينة في تركيا. وفور وصوله تقريبا، تم تخدير شعب وتهريبه عبر الحدود إلى إيران، التي ظهر بها بعد يومين على التلفزيون الحكومي للاعتراف بتورطه في عمليات إرهابية.
كانت عملية الاختطاف هذه هي الأحدث في سلسلة من الأعمال السرية والجريئة التي كانت تجري في إسطنبول.
وما تسلط الضوء عليه هذه الأحداث هو هوية إسطنبول المعقدة التي يفترض أنها ملاذ آمن للمعارضين السياسيين، ومركز اقتصادي، وهدف للعناصر الخطرة من جميع أنحاء منطقتها المضطربة.
تعتبر مدينة إسطنبول التاريخية، مركزا تجاريا يربط أوروبا بآسيا ما يعزز من مكانتها كأقوى محافظة في تركيا. ومع ذلك، ومع نمو مكانة تركيا السياسية والاقتصادية على مرّ السنين، اكتسبت إسطنبول جاذبية معيّنة لدى الجواسيس والقتلة وأفراد العصابات للعمل بها.
ومثلما تمنحها جغرافية تركيا دورا قياديا في التجارة، فإنها تلعب نفس الدور بالنسبة إلى العالم الخفي كطريق رئيسي لتهريب المخدرات ووجهة لغسيل الأموال مع كون إسطنبول مركزا للكثير منها. يعزز الدخول من دون تأشيرة، للكثير من القادمين من أغلب دول العالم، جاذبية إسطنبول في أعين المافيات التي تسعى إلى الاستفادة من اقتصاد الظل.
يمتلك رجال العصابات الأتراك تاريخا طويلا من حروب فرض النفوذ في أحياء المدينة، لكن تنضم إليهم عصابات الجريمة، ولاسيما تلك المنتمية إلى الاتحاد السوفييتي السابق، والتي يجلب أفرادها معهم مجموعة من الخلافات الخاصة بهم.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك حالة روفشان جانييف، وهو رجل مافيا أذري، مطلوب لارتكابه جرائم متنوعة في روسيا وإيطاليا. وقد اتُهم بالوقوف وراء اغتيال عرّاب المافيا الروسية بعد إصابة من قناص في عام 2013، وقتل بالرصاص في منطقة بشيكتاش بعد ثلاث سنوات كتصفية حساب.
استمرت هذه الملحمة حتى عام 2020 مع إحباط السلطات التركية عدة محاولات لاغتيال رجل عصابات أذري آخر يُدعى نادر ساليفوف، وقد اتُهم بتدبير مقتل جانييف.
وفي يناير، اعتقلت شرطة إسطنبول أعضاء من المافيا الروسية وصلوا إلى المدينة لقتل ساليفوف، وبعد تسعة أشهر، تم اعتقال زعيمهم، وهو رجل عصابات جورجي يُدعى غورام تشيكالادزه، مرة أخرى بسبب تورطه في هذه المؤامرة.
وقتل ساليفوف في أغسطس في منتجع أنطاليا الجنوبي على يد أحد حراسه الشخصيين، ويزعم أن من اتخذ قرار قتله هو زعيم مافيا من أوزبكستان.
إذا كان دور إسطنبول في عالم الجريمة العالمي هو أحد الآثار الجانبية السلبية لقوتها الاقتصادية، فإن دورها كملاذ آمن للمعارضين السياسيين في المنطقة يحمّلها عبئا خاصا بها.
ومن المتوقع أن يؤدي اختطاف شعب إلى إثارة الإحباط في نفوس المعارضين الإيرانيين في إسطنبول. وهذه ليست أول مرة يقع فيها أحد ضحية لذراع طهران الطويلة في شوارع إسطنبول منذ “الثورة الإسلامية الإيرانية” التي أطاحت بالشاه.
الاستخبارات التركية قادرة على العمل ضد المجرمين، لكن الاعتبارات الأكبر تلغي أي حاجة للقيام بذلك
قبل عام تقريبا، أطلق عملاء إيرانيون يعملون انطلاقا من القنصلية في إسطنبول، النار على مسعود مولاوي فاردانجاني بعد أن تحدث منتقدا الحرس الثوري الإيراني قبل أن يفرّ إلى تركيا.
كما قُتل سعيد كريميان، المسؤول التنفيذي في التلفزيون الإيراني، في جريمة قتل على يد عصابات في عام 2017، وكان المشتبه به الرئيسي هو النظام في إيران.
توضح كل هذه الأعمال كيف أن إسطنبول وقعت ضحية لجغرافيتها الاستراتيجية، لكنها أيضا تكشف عن الجغرافيا السياسية والأنظمة الخطيرة التي تلعب في كواليسها الخلفية.
وعلى الرغم من العلاقات الودية مع أنقرة، هناك مخزون عميق من الشكوك بين هذه الأنظمة حول التقارب التاريخي لتركيا مع الغرب. وفي بعض الحالات، سواء كانت مخاوف حقيقية أو متخيلة من التعاون مع المعارضين، قاد هذا التخوّف هذه الأنظمة إلى تولي زمام الأمور بأيديها، حتى لو كان ذلك يعني إراقة الدماء في شوارع إسطنبول.
وربما تكون روسيا هي الجاني الواضح في هذه المؤامرات.
وكتب الصحافيان أندريه سولداتوف وإرينا بوروغان في كتابهما “ذا نيو نوبيليتي” عن المخابرات الروسية، أن تركيا “اتُهمت منذ فترة طويلة بتقديم الدعم إلى المتمردين الشيشان، لاسيما وأن العديد منهم يعيشون كلاجئين في البلاد، ومعظمهم في إسطنبول.
وعلى مرّ السنين، قتل عملاء روس العديد عناصر من الشيشان في أنحاء إسطنبول دون الخضوع لأيّ عواقب وخيمة على الرغم من الاعتقالات التي تمت في بعض الحالات. وفي الكثير من الأحيان يتم إطلاق سراحهم بهدوء وإعادتهم إلى روسيا وفي بعض الحالات تم ربطهم باغتيالات أخرى في أوروبا، وهو ما كشف عنه موقع الأخبار الاستقصائي “بيلينغ كات”.
وتمكنت إيران أيضا من الإفلات من أي مساءلة عن أفعالها في تركيا. ولم تلُم السلطات التركية إيران بشكل مباشر في أي من الحالات التي قتل فيها معارضوها أو تم اختطافهم، لكنها فضلت تقديم تسريبات لوسائل إعلام دولية تشير بأصابع الاتهام إلى طهران كما كان الحال مع اختطاف شعب.
قد لا يكون السبب الذي يجعل القتلة وأفراد العصابات في إسطنبول قادرين على القتل والإفلات من العقاب في نفس الوقت له علاقة بفاعلية أجهزة الأمن التركية. ووفقا للعديد من الخبراء، من المحتمل أن تكون أجهزة الشرطة والاستخبارات التركية قادرة على العمل ضد القتلة المستأجرين داخل حدودها، لكن الاعتبارات الأكبر تلغي أي حاجة إلى القيام بذلك.
ويقول مارك جالوتي، الزميل البارز في المعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن، إنه “في حالة الاغتيالات الروسية، تعطي تركيا أولوية أكبر لعلاقات التعاون مع روسيا بدلا من إثارة ضجة كبيرة بشأن المتمردين القتلى الذين تعتبرهم موسكو إرهابيين”.
وأضاف جالوتي لموقع أحوال تركية عبر البريد الإلكتروني “أظن أن أنقرة ليست حريصة على وجود الكثير من المتمردين الشيشان وأنصارهم في الداخل، لذلك لا تشعر بالانزعاج عندما تقضي عليهم موسكو”.
وذهب جالوتي إلى أبعد من ذلك بالإشارة إلى رد روسيا الصامت على مقتل سفيرها أندريه كارلوف على يد ضابط شرطة تركي في عام 2016 كمثال على تفضيل العلاقات المتبادلة للتركيز على أهداف أوسع، مثل سوريا.
وبين سيث فرانتزمان، المدير التنفيذي لمركز الشرق الأوسط للإبلاغ والتحليل في القدس، إنه “من المحتمل أن يكون هناك شعور لامبالاة تركي مماثل تجاه الجرائم التي تدعمها إيران على أراضيها وأن اختطاف شعب يجب أن يُنظر إليه على أنه فضيحة مماثلة لاغتيال خاشقجي”.
وتابع فرانتزمان لموقع أحوال تركية “إن دولة قوية مثل تركيا لديها جهاز استخبارات متطور تدرك بالتأكيد أن هذا يحدث وتتجاهله عن قصد أو حتى تساعد في حدوثه. من المحتمل أن يكون هناك اتفاق هادئ من قبل كل دولة بعدم السماح بأنشطة معارضة ضد الأخرى”.
يبدو أن إطلاق تركيا للقطات المصورة التي تصور اختطاف شعب، وتسريبها لمعلومات عن عمليات استخبارات إيرانية واعتقالها 13 مشتبها في القضية، تؤكد أن السلطات لديها على الأقل بعض الفهم لما تنوي إيران فعله.
وأوضح فرانتزمان “على الرغم من علاقتها المتنامية مع إيران، كانت أنقرة تتطلع إلى الإشارة إلى أن طهران ربما تجاوزت حدودا معينة، وربما كان لدى تركيا طرف ثالث لإرضائه؛ الولايات المتحدة مثلا”.
وختم فرانتزمان بالقول “من المحتمل أن أنقرة كانت على علم بأن الولايات المتحدة كانت تعلم أن هذا قد حدث. الرسائل هنا تتعلق بإرضاء واشنطن وتوبيخ إيران، لكن من الواضح أن أنقرة إن أرادت منع العملية لكان بإمكانها القيام بذلك”.