بوتين وأردوغان.. ابتسامات أمام العدسات لا تخفي الأزمات

رغم اتفاق الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان مؤخرا على بدء وقف جديد لإطلاق النار في محافظة إدلب في شمال شرق سوريا بتاريخ الـ6 من مارس الجاري وتوزيعهما للابتسامات أمام عدسات الكاميرا في اجتماع موسكو، فإن علاقتهما باتت أكثر من أيّ وقت مضى في اختبار صعب لتقاطع تدخلهما في قضايا أخرى من أهمها الملف الليبي بما جعل كل طرف منهما يبني سياسته الخارجية على قاعدة المكسب والتكلفة.
أنقرة - هناك قواسم مشتركة تجمع بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، فكلّ منهما يُعتبر شخصاً قوياً ومستبداً يشعر بالغبن تجاه ما يراه نظاماً دولياً ظالماً يهيمن عليه الغرب.
وكان لهذا التشابه فوائد ملموسة للطرفين. فقد نجح أردوغان في إسكات روسيا عن الهجمات التركية على القوات الكردية السورية، واحتلال مساحات من الأراضي في شمالي سوريا. وبالنسبة إلى بوتين، فإن تشجيع أردوغان خدم الجهود الروسية الرامية إلى بث الفرقة داخل حلف شمال الأطلسي، من خلال استخدام تركيا ضد شركائها في الحلف، وخصوصاً الولايات المتحدة.
لكن أردوغان توجّه إلى موسكو مجدداً الخميس الماضي للقاء بوتين بعد اشتعال الوضع في مدينة إدلب شمال غربي سوريا، والتي كانت هناك مساع لإرساء السلام فيها عبر اتفاق بين تركيا وروسيا جرى توقيعه في مدينة سوتشي الروسية في سبتمبر من عام 2018. وانهار الاتفاق بعد أن شنت قوات الرئيس السوري بشّار الأسد هجوماً أدخلها في صراع مباشر مع تركيا.
وجرى تطويق نقاط المراقبة التركية، التي سُمح بها في إطار اتفاق عام 2018، وقُتل العشرات من الجنود الأتراك في اشتباكات مع دمشق، في أكبر خسائر بشرية تتكبدها تركيا. حدث ذلك في الثامن والعشرين من فبراير، عندما قُتل أكثر من 30 جندياً تركيّاً. ومنذ بداية فبراير، أرسلت تركيا أكثر من سبعة آلاف جندي تركي إلى إدلب، واستهدفت الطائرات المسيرة والمدفعية التركية قوات الحكومة السورية رداً على ذلك الهجوم.
وفي موسكو، أقر بوتين وأردوغان بالحاجة إلى الدبلوماسية الشخصية، بالنظر إلى فداحة الكارثة في إدلب. وبعد مباحثات بين الوفدين استمرت لست ساعات، أُعلن عن بدء وقف جديد لإطلاق النار منتصف السادس من مارس، بالإضافة إلى تسيير دوريات روسية تركية مشتركة في طريق “إم – 4” شرق – غرب، للمساعدة في إعادة فتح الطريق أمام حركة المرور التزاماً بالوعود التي جاءت في اتفاق سوتشي الأصلي. وأُسندت إلى وزراتي دفاع البلدين مهمة اتخاذ القرارات بشأن التفاصيل الأخرى.
رغم أن كلاّ من أردوغان وبوتين يدعم طرفا، فإنهما متفقان على أن حل الأزمة السورية يجب أن يكون من صنعهما
وقالت ماريانا بِلِنكايا، الكاتبة في صحيفة “كومِرسانت” الروسية إن “بوتين وأردوغان اتفقا على وقف لإطلاق النار في منطقة عدم التصعيد في إدلب. الأهم من ذلك، أنهما اتفقا على الإقرار بواقع جديد على الأرض”.
وأضافت أن “روسيا – من عدة أوجه – عوّلت على هذا الخيار كنتيجة، رغم مطالبة أردوغان من قبل بانسحاب الأسد إلى الحدود الأصلية المنصوص عليها في سوتشي”.
لكن بلنكايا قالت إن سياق هذا الاجتماع مختلف عن غيره في السنوات السابقة. وأردفت قائلة إن “هذا الاجتماع جاء على خلفية تفاقم الوضع في إدلب، عندما كانت روسيا وتركيا على وشك الدخول في اشتباكات عسكرية.
وأُجريت اللقاءات السابقة في ذروة نجاح العلاقات الثنائية مع إطلاق (خط أنابيب الغاز) ‘ترك ستريم’ والاتفاق بشأن ليبيا”، وذلك في إشارة إلى لقاء أردوغان السابق مع بوتين في إسطنبول في شهر يناير الماضي.
وخلال القمة، بدا الرجلان محاطين بهالة، كما لو كانا ملكين متوّجين في المنطقة، حيث عملا كشريكين في حل مشاكل هذه المنطقة. وفي ذلك اليوم، دُشّن خط أنابيب “ترك ستريم”، الذي تنشئه شركة غازبروم الروسية بمليارات الدولارات، وأُعلن وقف إطلاق النار في ليبيا، حيث يدعم كل منهما أحد طرفي الصراع المتناحرين. وأُعلن أيضاً وقف إطلاق النار في إدلب، التي بدأ فيها الهجوم الجديد في ديسمبر 2019.
ورغم أن هذين الاتفاقين كانا يبدوان رائعين في الظاهر، فإنهما لم يحقّقا نجاحاً. فقد انهار اجتماع لطرفي الصراع الليبي في موسكو، ولم يحقق الكثير للوصول إلى تسوية سياسية. وبالنسبة إلى وقف إطلاق النار في إدلب، فقد أخفق بصورة أكبر، حيث لم يصمد سوى أيام قبل أن تتواصل المناوشات والقصف الروسي.
في فبراير، كانت العلاقة بين تركيا وروسيا مشحونة بصورة أكبر، وسط المناوشات بين القوات التركية والسورية في إدلب. وقُتل أكثر من 50 عسكرياً تركياً ومئات من القوات الحكومية مع توغل القوات السورية في إدلب بعد استعادة الطريق السريع “إم – 5” شمال – جنوب وريف حلب. وفرّ نحو مليون سوري باتجاه تركيا، التي حذّرت من أنها لا تستطيع استيعاب الأعداد الجديدة.
وحمّل أردوغان جزءاً كبيراً من المسؤولية عن الانتهاكات لدمشق. لكن على عكس الهجمات السابقة، لام أردوغان روسيا أيضاً لأنها سمحت لدمشق باستهداف المدنيين وخرق اتفاق سوتشي. وبعد أن قتلت غارة جويّة 34 عسكرياً تركياً خلال الفترة الماضية، قال أردوغان إنه حذر بوتين في مكالمة هاتفية، هي الثانية في سبعة أيّام، بأن “يبتعد عن الطريق”.
وعن مضمون هذه المكالمة، قال أردوغان في إسطنبول “سألت السيد بوتين: ما شأنك هناك؟ إذا كنت تؤسس قاعدة، فافعل. لكن ابتعد عن طريقنا ودعنا والنظام وجهاً لوجه”.
ومنذ ذلك الحين ردّت تركيا بعنف، حيث أسقطت عدداً من الطائرات السورية، ودمّرت أهدافاً حكومية في هجمات بالطائرات المسيّرة، واستعادت بلدة سراقب بصورة مؤقتة. وأقر بوتين يوم الخميس الماضي بهذه الخسائر في الجانب السوري.
المفاجأة كانت صادمة لروسيا في البداية، لكنها سرعان ما ردّت بأن حذّرت من أنها لا تستطيع ضمان سلامة الطائرات التركية في الأجواء السورية بعد أن أعلنت دمشق إغلاق المجال الجوي في إدلب. وبعد استعادة الحكومة بلدة سراقب، انتشرت الشرطة العسكرية الروسية فيها لردع تركيا عن شن هجوم مضاد.
وأفادت رويترز بأن عدد الطائرات الروسية المقاتلة والرحلات الجوية إلى سوريا زاد تحسباً لاحتمال إغلاق تركيا مضيق البوسفور أو مجالها الجوي أمام القطع الروسية على نحو يعقّد جهود إعادة التموين والإمداد.
وقالت جنى جبور، أستاذة العلوم السياسية في معهد الدراسات السياسية في باريس والخبيرة في الشأن التركي، إن الجانبين يحاولان زيادة مكاسبهما العسكرية لتعزيز وضعهما في إدلب، وتوقعت أن يكون تأمين طريق “إم – 4” السريع جزءا من أيّ حل وسط.
وأضافت جبور أن “ميزان القوة على الأرض في إدلب لا يصبّ في مصلحة تركيا. فأيّ حرب مفتوحة يطول أجلها تنذر بتقويض قدرة تركيا على الانتشار أو التعبئة في سوريا”.
وفي مؤتمر صحافي عقب اجتماعهما، أقر بوتين وأردوغان بصعوبة المفاوضات وقالا إنهما مستمران في التعاون. وقالت جبور إن أيّ صدع في العلاقات بسبب الخلافات بشأن إدلب أمر غير مرغوب فيه، مقارنة مع البدائل الأخرى المتاحة لإنهاء الحرب السورية.
ورغم أن كلاّ من أردوغان وبوتين يدعم طرفاً دون الآخر، فإنهما متفقان على أمر مهم جداً، وهو أن حل الأزمة السورية يجب أن يكون إقليمياً، وأن يكون من صنعهما، وليس حلاً دولياً يأتيهم من الغرب. وأكدت جبور على أن لدى تركيا وروسيا شغفا بالحفاظ على وضعهما كقوتي وساطة في سوريا.
وحتى إذا رأى بوتين وأردوغان أن علاقاتهما الشخصية قوية بما يكفي للخروج من هذه العاصفة، فإن السؤال الملحّ الذي سيظل يطرح نفسه هو كيف ستؤثر الهفوات المتكررة في إدلب على العلاقة الروسية التركية الأوسع؟
وقالت بلنكايا “من المؤكد أن الوضع في إدلب تغيّر كثيراً. وهذا يجعلني أتساءل ما مدى قوة التحالف الروسي التركي في سوريا وبشكل عام؟”.
وحذّرت كارول سايفِتز، المستشارة الأولى لبرنامج الدراسات الأمنية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، من أنه ما زال هناك وقت لانهيار وقف إطلاق النار، ومن أن الأسد هو الطرف الذي من المحتمل أن يفسد وقف إطلاق النار هذا.
وقالت “يبدو أنهما اتفقا على وقف هش لإطلاق النار. فالدوريات المشتركة لن تبدأ قبل الـ15 من مارس، والكثير من الممكن أن يحدث في عشرة أيّام”، مشيرة إلى تصريحات أردوغان بعد القمة، والتي قال فيها إن تركيا تحتفظ بحقها في الرد على الأسد.
وأضافت سايفِتز أن أردوغان وبوتين ما زالا يدركان قيمة شراكتهما، لكنهما يعتقدان أن إدلب غيّرت تحليلهما لحسابات المكسب والتكلفة.
واختتمت حديثها بالقول بأن “استخدام بوتين لتركيا في إضعاف حلف شمال الأطلسي ما زال يخدم هدفه. أما بالنسبة إلى أردوغان، فأعتقد أن ارتباطه بروسيا فقد بعض فوائده؛ فروسيا لم تتردد أبداً في مهاجمة القوات التركية. ووجد أردوغان نفسه فجأة في حاجة إلى حلف شمال الأطلسي من جديد”.