"هوارية" جرأة أدبية تستنفر حراس معبد الأخلاق في الجزائر

حين تعرض الكاتب المصري الراحل نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال بسبب رواياته اعترف منفذها بأنه لم يقرأ أيا من أعمال محفوظ، وهذا المشهد يتكرر منذ عقود، أناس عصبيون يهاجمون المبدع بعماء دون أن يعرفوا عن عمله شيئا. وهذا ما تعرضت له مؤخرا رواية جزائرية لا يزال الجدل مستمرا بشأنها.
الجزائر - فجرت رواية “هوارية” لصاحبتها إنعام بيوض، المتوجة بجائزة آسيا جبار الأدبية في دورة العام الجاري، سجالا أيديولوجيا غير مسبوق في الجزائر، بين ما يعرف بالمحافظين والحداثيين، وذلك على خلفية مفرداتها السوقية والإباحية، وفيما غابت القراءة النقدية المحايدة، تمترس الطرفان في خندقي الاتهام والاتهام المضاد دفاعا عن حرية الإبداع أو الأخلاق والقيم.
وأفرز الجدل الصاخب في الأوساط الأدبية والثقافية الجزائرية، حول رواية “هوارية” للروائية والمترجمة ومديرة معهد الترجمة إنعام بيوض، تداعيات توسعت إلى خارج أروقة الأدب، ففيما يستعد برلمانيون ينتمون إلى أحزاب إسلامية لمساءلة الحكومة على ما وصفوه بـ”الانحراف”، فتحت عريضة للتوقيع تطالب السلط المختصة بسحب الرواية من السوق، وسحب الجائزة من صاحبتها، نظرا إلى ما قالوا إنه “إساءة وخدش للحياء وللذوق العام”، كما قررت دار “ميم” الناشرة للرواية غلق أبوابها.
مما جاء في بيان دار ميم للنشر قولها “لكن لا جدوى ولا معنى من محاربة العبث، ونعلن في هذا اليوم انسحابنا من النشر، تاركين الجمل بما حمل كما فعلنا دوما، ونعلن أن ميم أغلقت أبوابها منذ اللحظة في وجه الريح، وفي وجه النار، لم نكن إلا دعاة سلم ومحبة ولم نسع لغير نشر ذلك.. حافظوا على البلاد من التشتت وحافظوا على الكتاب لأن شعبا يقرأ، شعب لا يستعبد ولا يجوع”.
و”هوارية” هم اسم يطلق على الأنثى في مناطق الغرب الجزائري، ومذكرها “هواري” يطلق على الذكر، وتجري أحداث الرواية في مدينة وهران، حيث قضت الكاتبة سنوات من حياتها هناك، لما كانت تدرّس في إحدى كلياتها، ووهران تعتبر العاصمة الثانية للبلاد، لكنها مدينة حبلى بالتناقضات وبالتركيبات السوسيولوجية المتنافرة، فهي على أحيائها الراقية ولوبيات المال والعقار والنفوذ، تضم في جنباتها أحياء وضواحي الفقراء والمعدومين.
ويبقى إلى حد الآن الروائي والمترجم الجزائري محمد بورحلة من الوجوه الأدبية القليلة التي قدمت قراءة نقدية لرواية هوارية، بعيدا عن صخب السجال الأيديولوجي المحتدم بين طرفين متمترسين دون حتى معرفة محتوى ورسالة وقيم المنجز الأدبي المتوج بجائزة آسيا جبار في طبعتها الأخيرة (2024).
وذكر بورحلة في مساهمة له نشرها على صفحته الرسمية في فيسبوك أنه “شد انتباهي في الرواية أن عناوين فقراتها تبدأ كلها بحرف الهاء (هوارية، هشام، هاني، هاجر، هناء، هواري، هدية، هاشمي، هجيرة، هبيرة، ها، هبة، هنّان، هالة) ما عدا الفقرة الأخيرة (آباش). تساءلت عن معنى ذلك ولا أعتقد أنني اهتديت إلى تفسير جدير بالذكر. وما زاد من حيرتي توقف الكاتبة مرة أخرى في الصفحة 145 عند عبارة ‘آه’، أي حرف الهاء لكنه معكوس”.
وأضاف “تساءلت إن كانت صاحبة النص تمتهن التعقيد أم أنها أرادت أن تدفعني إلى حقيقة القراءة بصياغة نصي من خلال ما هو ضمني في نصها، أم أنها تسعى إلى نكء جرحي بإحالتي إلى ما يصنع ضجري وأيامي الرتيبة: جدلية ‘الهاء، الاغتراب’ والآه (التأوه أو التيه). تساءلت إن كانت لها فلسفة تجعلني، على غرار اليين واليانغ، أدرك علاقة التضاد والتكامل في أمور الدنيا من خلال معرفتي بالهاء والآه”.
وتابع “لا أعرف الكاتبة لكنني لا أحتاج إلى ذلك لأقول إنها على دراية بما تفعل وبفنون الأدب، وإنها، كما يقول نيتشه، تكتب لآذان شقيقة وليست ملزمة بالتفسير، بل أقول إنها خبيرة بالغنوصية، فدست، على حين غفلة من وحش الرقابة، بين سطور النص الشائكة، كثيرا من التعاويذ والطلاسم. وإلا فما معنى أن جل أسماء الشخصيات تبدأ بالهاء: الحرف الناري لدى علماء الحروف والخامس في الترتيب الأبجدي”.
ويرى الروائي والمترجم محمد بورحلة أن “الرواية مأساة حقيقية لا يفهمها غير المثخن بالجروج. بناء القصة متقن. الفاتحة النصية جذابة، الاستهلال مرجئ للحدث، الحبكة تبنى بالإيحاء، وعلى أساس الاستباق والاستذكار. السارد بين حضور وغياب، الزمن (العشرية السوداء) والمكان (وهران) محددان، رسم مواصفات الشخصيات شيق وجيد، البوح يخاطب القارئ مباشرة، الأسلوب جميل، اللغة تميل بين الفصحى والعامية (اللهجة الوهرانية)، كما أن الرواية متناصة مع نصوص أخرى كديوان أبي العلاء المعري، أو قصيدة ‘دع عنك لومي’ لأبي نواس، القصيدة التي قالها لرئيس إحدى فرق المعتزلة (إبراهيم النظام)، وقد لامه على شرب الخمر”.
وبشأن ما ورد فيها من مفردات إباحية وخادشة، يرى أن تلك اللغة هي التعبير الملائم والمناسب لحياة شخصيات الرواية وللوضع (الفقر، الجهل، الخيانة، الزيف، الملاهي، المخدرات والمومسات) الذي يعيشون فيه. فماذا يمكن للقارئ أن ينتظر ممن يعيش بين وضع “الثقاف” وضرب “الخفيف” و”ربط الأزواج”، في حي المعلم الذي كاد أن يكون رسولا، يعلم فيه التلاميذ التعابير البذيئة، حي تضم شعابه “صفوة اللصوص، ومروّجي المخدرات، والقوّادين، وبنات الهوى”، ويوجد فيه، قرب زنقة ” كْلاه بوبي”، وبين “طريق البايرات” المسدود، و”زنقة الحلّوف”، ماخور -مهد النخاسة والتعاسة والبذاءة- يسمى “حمام الصالحين”.
فهل ينتظر من هؤلاء كلام يرضى عنه ابن جني والخليل، وإن كان ذلك يخدش الحياء، فالذي نراه ونسمعه كل يوم أشد منه بذاءة لكننا لا نحرك ساكنا، ثم ليست الكلمات، التي هي مجرد انعكاس شاحب للواقع المعيش، هي التي تخدش الحياء، بل صمتنا أمام واقع يومي نتحمله ونتجرع مرارته من خلال تعصيب أعيننا وقلوبنا وعقولنا.
ويصنف الرواية في خانة النص الجريء ليس بما يوجد فيه من تعابير بذيئة وشبق (تلك هي حياة البقارين “تجار المواشي” والمومسات) بل بوضع إصبعه وضغطه على القرح الذي يجعل أنسجة المجتمع تتآكل بسبب تعرضها لأحماض النفاق والجفاء. النص جريء بتطرقه إلى المسكوت عنه، بتسليط الضوء على العبث وإن خدش ذلك الحياء المزعوم، وعلى علاقة المال بالفساد، وتركيبة المجتمع الوهراني (أي الجزائري)، وعلى سر تشجيع النهج الصوفي. وهو جريء بإزاحته بظهر اليد المثالية – هوّاري، أخ هوارية، يتاجر بزوجته (هدية)، ينشط في جماعة إرهابية ويعمل مخبراً لدى مصالح الأمن.
ويضيف بورحلة “النص جريء بفضحه المثقفين الذين استرغدوا العيش في أبراجهم العاجية”، وكشفه طوباوية التنظيمات اليسارية ونزعه الهالة التي تحاط عادة بـ’الرفقاء’، إذ يصورون كأنصاف آلهة يصنعون العالم أو يغيرونه، تنظيمات تعاني مما سماه هشام، إحدى الشخصيات المنتمية إليها: انعدام التناغم بين جماليات المبادئ ومفارقات التطبيق. كل ذلك في غاية الجرأة، وإن كانت بعض النمطية والسطحية في وصف الإسلاميين حتى مع ذكر الوجه المضيء للإسلام من خلال تناول شخصية الجراح (مراد)، الضوء الذي لخصه في قوله ‘ما دُوّن بعد ما يفوق القرنين لا يُعتدّ به'”.
◙ النص جريء بتطرقه إلى المسكوت عنه في المجتمع وتسليط الضوء على العبث وإن خدش ذلك الحياء المزعوم
يخلص بورحلة إلى أن ذم الكتاب بداعي البذاءة لا يستند إلى مقياس نقدي أدبي. إن “رواية ‘هوارية’ عمل أدبي معتبر وجدير بالقراءة مع أن القراءة عندنا وهم بصري وأن المشهد الثقافي سراب يصنعه المثقفون”. في المقابل استعان الإعلامي عبدالعزيز تويقر، في استهجانه للغة الرواية، بما أورده عمر بن قينة في أحد نصوصه، بأن “موجة روايات العري أكثر من غيرها تشويها للحياة العامة وللقيم الإنسانية، والحياة الأسرية، والعلاقات البشرية السوية، فأثرها على المجتمع تدميري، يمسّ مختلف الجوانب، في المقدمة: الأخلاق والأذواق، والحياة السوية، حتى الزوجية نفسها، تشيع الفاحشة وتغري بها”.
وفي نفس المنحى كتب نذير طيار “أعرف أن شخوص الرواية قد يتعددون، وقد يرسم الكاتب شخصيات متناقضة لهم، تجمع بين الطيب الصالح والفاسد الطالح، فتأتي الروايات متوازنة، كما يأتي التصوير محافظا على الحد الأدنى من القيم المجتمعية”. وأضاف “بإمكان الروائي أن يصور هذا الهامش وأمراضه بأساليب راقية لا تخدش الحياء”، وتساءل “أي معنى لرواية لا يمكنني قراءتها إلا متخفيا، ولا يمكنني تداولها مع الأصدقاء إلا كما تتداول الممنوعات، خائفا من أن تقع بين يدي ابنتي”.
ولفت إلى أن بعض الروائيين ومعهم بعض المتخصصين في الأدب، ولكثرة قراءتهم لهذا النوع، بهدف الدراسة، أصبحوا يرون في ذلك أصلا مقدسا، لا يجوز الخروج عليه، ثم قادوا حروبا شعواء ضد من ينكر ذلك. المشكلة في فلسفة الفن نفسه، من فرض عزله عن الدين والأخلاق؟ وهل على الجميع الانصياع لذلك؟ ومن فرض قاعدة: لا خطوط حمراء في التعبير الفني؟ وهل تجيز القيم المجتمعية اليوم أن تعرض السينما كل شيء بدعوى الصدق الواقعي؟
ويخلص إلى أنه “من حق كل روائي أن يدافع عن رؤيته الأيديولوجية من خلال روايته، وواضح من بعض الصفحات التي اطلعت عليها من الرواية عن الملتحين أن الروائية ألبست المشكلات الاجتماعية والسياسية كلها، خلال العشرية السوداء، للإسلاميين واليساريين، فما موقع السلطة الفاسدة من الإعراب؟ هل كانت بريئة إلى هذا الحد؟”.
السجال لا يزال متواصلا على مواقع التواصل الاجتماعي، بين منتقدين وغاضبين على ما أسموه بـ”المحتوى الإباحي” للرواية، التي ضمنتها صاحبتها ألفاظا من اللسان الدارج المنتشر في غرب البلاد، ومفردات نابية، وظهر في مقدمة هؤلاء التيار المحافظ والإسلامي الذي يسوق نفسه في ثوب المدافع عن القيم والثوابت الروحية والثقافية للبلاد، خاصة لما يتعلق الأمر بآراء ووجهات نظر تصدر عن النخب الحداثية والتنويرية.
وفي المقابل حظيت الأديبة إنعام بيوض بموجة تعاطف كبيرة، من طرف مثقفين وكتاب وجامعيين وإعلاميين، دعوا خصومهم إلى ضرورة الاعتراف بأن الرواية عرت المسكوت عنه في المجتمع، وأن ما تلام عليه بيوض يمارس ويلمس في ربوع البلاد، وأن العبرة في فهم رسالة الأديبة قبل إصدار أحكام نمطية والانتصاب كحراس معبد القيم والأخلاق.
وحتى دار نشر ميم تلقت سيلا من رسائل التضامن ودعوة مالكتها آسيا علي موسى إلى التراجع عن قرارها، وكتب في هذا الشأن الناشر والكاتب رفيق طيبي “هذا القرار لاغٍ ومرفوض كليا ولا أحد يملك سلطة عليك لو أردت المواصلة فيه، لكن جميع قراء دارك يملكون عليك سلطة المحبة وهي أقوى من جميع السلطات المدنية والعسكرية والسياسية وأنت تدركين ذلك جيدا وتعلمين أن السلطات الروحية تسقط قرارات وتدشن أخرى لصالح الكتاب والعلاقة الحميمة التي جمعتك بآلاف القراء طيلة سنوات طويلة. أظنه وقتا ملائما للاستراحة وأخذ عطلة جميلة والعودة مجددا وبقوة أكبر”.
وفي الطريق الثالث عبر الإعلامي رياض هويلي عن “اهتمامه ومتعته بالجدل الذي فجرته الرواية، فهي على إزاحتها لغطاء النوم على كبار الكتاب والأدباء وتحميل أناملهم عناء الكتابة في يوم حار كحرارة الجدل الذي ألهب صفحات الفيسبوك الجزائرية، وأحرق دار ميم للنشر، وهو قرار مؤسف، خاصة وأنه تزامن مع ما يعيشه عالم النشر من أزمة متداخلة العناصر، متعددة الأوجه، معقدة المسارات”.
ولفت إلى أن “هوارية” حركت ركود الساحة الأدبية، وجعلت كتابا وأدباء ونقادا وأكاديميين يخرجون من سباتهم ويتذكرون أن هناك ما يجب القيام به، مشددا على أن القابلية للحوار بين المثقفين والأكاديميين لا تزال في مهدها، فهي تبدو مشحونة بخلفيات وأحكام مسبقة، يمكن تصنيفها ضمن خانة تصفية الحسابات، أكثر منها تراشقا بالأفكار وتدافعا بالحجج. وتابع “الاندفاعية أو ‘المبدئية العمياء’، والتي يمكن ملاحظاتها من خلال اتخاذ موقف مبدئي لمجرد سماع شيء دون التحقق منه أو الاطلاع عليه. تخيلوا، هناك من حكم على الرواية دون قراءتها أو علمه بفوزها أصلا، وهنا أقصد الكتاب والأدباء والأكاديميين، من أمثال أولئك الذي يستهلون تعليقهم أو مواقفهم بالقول: لم أطلع على الرواية، لكن… ".
وحذر هويلي مما وصفه بـ”تعويم النقاش، وإن كان صفة من الصفات الذميمة لفيسبوك، إلا أن آثاره بالغة الخطورة، أدبيا وفنيا وأكاديميا وحتى أمنيا، فالانحدار بالنقاش إلى الشخصنة والسب والشتم وأحيانا استحضار أحكام دينية، أو روابط أسرية مقدسة، والقذف بها في وجه الرأي المخالف من قبل مجموعات لا تكلف نفسها عناء قراءة منشور من بضع كلمات، فما بالك برواية لم يطلع عليها حتى أهل الاختصاص والمهتمين، ينقل النقاش من حالة الجدل إلى الصدام، وهذا خطير". وخلص إلى أنه "محكوم علينا بالحوار، بالتعايش، وإلا ما بقيت لا ثقافة ولا أدب".