همنغواي حوّل الكتابة إلى أمر مذهل بالتخلص من البساطة وخلق الأحداث بدل وصفها

"مباهج الكتابة وأوجاعها" تعليقات عن الكتابة المهنة الشاقة والممتعة.
الأربعاء 2025/03/05
على الكاتب التوقف حين يشعر بأن عمله يسير انسيابيا

الحديث عن الأعمال الأدبية وعالم الكتابة لا ينفصل عن المحيط الحيوي للنص والآراء التي يصرح بها المؤلف في حواراته أو ما يناقشه مع أصدقاء المهنة من الأفكار بشأن مصادر الكتابة الإبداعية، وما يتبع ذلك من التلميحات إلى المناورات المطلوبة للتهرب من شبح القلق عند مواجهة المساحة البيضاء، وما يكون دافعا للاستئناف بعد الانقطاع سواء قد تطول مدته أو تقصر.

يبدو أن الكاتب لا يحظى بالإقامة في منطقة الأمان بل مع الشروع بتأليف أي عمل جديد يشعر بأنه مضطر لاستنفار الطاقة من أجل إتقان الصنعة هذا ما يعترف به الروائي الأميركي ف. سكوت فيتزجيرالد. أما عن اللحظة الإبداعية والغموض الذي يكتنفها بالنسبة إلى القارئ، فمتابعتهما تثير لديه الأسئلة عن التربة التي يستمد منها الأديب المادة المكتوبة، والموضوع ذاته يتخذ صورة اللغز في ذهن المبدع، إذ يشبّه صاحب “غاتسبي العظيم” فن الرواية بخدعة تنطلي على العقل والقلب مركبة من عدة عواطف منفردة كتلك التي يستخدمها الساحر في لعبته، وما إن ينتهي الروائي من ذلك ويسجل فيه التفوق حتى ينسى ما يجب عليه إتقانه من البداية.

يقول مواطنه إرنست همنغواي إن الكتابة عموما وكتابة النثر على وجه الخصوص هي أصعب حرفة في عالم الإبداع، لأن المؤلف لا يستند إلى أي مرجع. كل ما يمتلكه هو الورق الأبيض الفارغ وقلم الرصاص. وعلى الرغم من تشاؤم بابا همنغواي بالحديث عن كواليس الكتابة وحيثياتها فإن الصحافي الأميركي لاري فليليبس وثق آراءه عن تأليف الرواية في كتاب موسوم بـ”مباهج الكتابة وأوجاعها” وكان مصدره ما ورد في رسائل متبادلة بين الكاتب وأصدقائه أو ما ذكره في سياق الحوارات المنشورة في المنابر الصحفية. كما أضاف لاري ما ضمنه همنغواي في مؤلفاته من توضيحات عن الكتابة، خصوصا ما دسه في “موت في الظهيرة” و”السطر التعريفي” وما نشر له بعد رحيله بعنوان “باريس وليمة متنقلة.”

ملعب الكاتب

لاري فليليبس لا تفوته شاردة ولا واردة من تعليقات همنغواي عن مهنته الشاقة والممتعة في آن واحد. وبذلك يكون المتابع أمام صورة الكاتب وهو يتوقف من انتهال الكلمات قبل أن تصاب طاقته بالجفاف وتنفد الكلمات كما يراه فاضحا شخصية الناقد المتقلب. إذ يؤكد أرنست همنغواي بأن النقاد يخلعون شتى الصفات على المؤلفين وما إن يتبين الخطأ في التقديرات والفهم حتى يتهمون المؤلف بأنه يدعي الزيف لكي يخفي طبيعته الحقيقية. أكثر من ذلك يكشف عن أجواء ملعبه الإبداعي وما يستدعي ترتيبه من العزلة والتعاويذ.

 يعترف صاحب “لا تزال تشرق الشمس” بأن كل ما يحتاج إليه لمواصلة المهنة هو الدفاتر وقلم الرصاص والمبراة، والطاولات. لا يستغرب القارئ من ضرورة هذه الأدوات لأنها قد يطالب بها أي كاتب آخر، لكن المفاجئ ما يشير إليه همنغواي بأنه يحمل ثمرة الكستناء وقدم الأرنب لترويض الحظ بهما. بخلاف الكثير من الكتاب الذي يتوسلون بالقراءة على اعتبار أنها إحماء قبل العودة إلى ملعب الكتابة، فإن همنغواي لا يقرأ قبل ممارسة الكتابة في الصباح، لأنه يريد مواجهة هذا التحدي دون مساعدة أو تأثير من أحد. كما لا يعجبه الاقتداء بغيره وهو يكتب.

◙ ما يفرغ الرواية من الطاقة الإبداعية حسب همنغواي هو فشل الكاتب في تحديد المسافة بينه وبين الشخصيات الروائية
◙ ما يفرغ الرواية من الطاقة الإبداعية حسب همنغواي هو فشل الكاتب في تحديد المسافة بينه وبين الشخصيات الروائية

لا شك إن القواعد التي كان يتبعها همنغواي في الكتابة هي حصيلة الخبرة والمراس في المعترك قد تفيد أي روائي أو كاتب في يومياته. والملاحظ في الكتابة أنها مهنة يصحبها القلق والتوتر. والتغلب على ذلك برأي المعلم لا يكون إلا بتوقف الكاتب حين يشعر بأن عمله يسير انسيابيا ولا يثقل على منهجه بالتفكير والقلق من العمل. بل عليه الخروج من طقس الكتابة إلى أن يعاود الكتابة في اليوم التالي. وبهذه الطريقة يأخذ العقل الباطن وقته لمعالجة العملية برمتها. وما تعلمه همنغواي من خلال مراقبة نشاطه الإبداعي هو أن لا يفرغ بئر كتاباته بشكل كامل إذ يتوقف كلما شعر بأنه لا يزال هناك شيء ما أسفل البئر. وهذا الاحتياط الذي يتغذى من عدة روافد يكون خميرة لجولة لاحقة. ومن المبادئ التي لا يمكن مخالفتها في الخط الإبداعي هي الاستمرارية لذا ينصح همنغواي صديقه فيتزجيرالد بأن يستمر في الكتابة. حتى لو بلغ أقصى درجات الحضيض.

يفهم من المقاطع التي تتوارد في سياق الرسائل والحوارات التي راجعها لاري فليليبس أن همنغواي لم يكن كاتب المناسبات. لأنه قد رأى في الكتابة حياة مبنية على العزلة في أفضل حالاتها. أما المكانة الاجتماعية التي قد يحظى بها الكاتب والتي تكسر حصار الوحدة، فهذا يكلفه على المستوى الإبداعي وغالبا تضرب مسيرتها في المقتل. وما قاله أودين عن الشعر بأنه الفعل الاجتماعي للشخص المنعزل، ينطبق على الرواية أكثر، لأن العمل الروائي يشبه السباق الماراثوني، ومن متطلباته النفس الطويل ومواجهة تعنت اللغة.

ولا يملك الكاتب في هذا الطريق ما يسمى بـ”المعينات الحسية”. وعن معاناته في تجربة الكتابة يتذكر جوزيف كونراد ما عاشه من أوقات صعبة “لقد جلست ثماني ساعات، ولم أفعل شيئا خلال تلك الفترة، لقد كتبت فقط ثلاث جمل، ثم قمت بمحوها قبل أن أغادر طاولة الكتابة.” والحال هذه كان يتحمل همنغواى وحدته ويعتزل في غرفة إحدى الفنادق ليتمكن من العمل ويعطي العنوان بالخطأ لكل من يسأل عن مكان إقامته. وما يجب أن يبرمجه الكاتب في طبعه الشخصي هو القدرة على الاستماع. فمعظم الناس حسب ما لاحظه همنغواي لا ينصتون ولا ينتبهون إلى ما يجري حولهم. بينما من يمتهن الكتابة فمن الضروري بالنسبة إليه الانتباه إلى كل ما هو موجود في غرفة يدخل إليها، بحيث عندما يخرج منها يتمكن من استعادة مكوناتها. فعدم الإنصات إلى الناس يحول الكاتب إلى نهر نضبت مياهه.

وفي رسالة يكتبها إلى جون دوس باسوس يذكر بضرورة التحدث عن الطقس في أعماله، لأن الطقس في غاية الأهمية. من المعلوم أن تحسن جودة الكتابة وقف على مراقبة المشروع وإعادة النظر في الأشواط التي قطعها المؤلف في مسيرته الإبداعية. يقول همنغواي إنه مع التأمل في العناصر التي كونت كتاباته ونجاحه في التخلص من البساطة، محاولا خلق الأحداث بدلا من وصفها أصبحت ممارسة الكتابة أمر مذهلا.

غني عن البيان بأن همنغواي يقصد بالبساطة الاسترسال في الوصف. ولا يشجع على السباحة في الغموض المفتعل، إنما يفضل الكتابة عن الأمور المألوفة لديه ساعيا إلى تحقيق النجاح في هذا الجانب. ويعلن همنغواي بأنه قد كسب رهانه في رواية “الشيخ والبحر” موضحا سبب تميز هذا العمل الذي يمكن قراءته بسهولة وببساطة، ومع ذلك يشمل على كل أبعاد العالم المرئي والروح الإنسانية. وعن أسلوبه في التعبير فقد أراد الابتعاد عن الجمل التقريرية والعبارات الصريحة واستهواه الشكل الضمني في السبك والصياغة.

نهايات القصص

منشأ الإبداع الروائي قبل أن يكون قراءة أو تطبيقا لجملة من القواعد التنظيرية هو التجربة الحياتية. فقد اختبر همنغواي أجواء الحرب فعليا وشاهد ارتداد زلزالها على جميع المستويات النفسية والاجتماعية والفكرية. وانكبابه على مسيرة تولستوي معاينا محطاتها المفصلية قاده إلى اكتشاف ما يمكن أن تضيفه الحرب إلى مخزون الكاتب.

 ويؤكد همنغواي بأن الحرب من أهم المواضيع الإنسانية غير أن الكتابة عنها أمر في غاية الصعوبة، ملمحا إلى أن الكاتب الذي يتفوق في تأليف الرواية عن الحرب تنهال عليه سهام الغيرة من الذين يتعثرون في هذا المجال. وأفضل حرب بالنسبة لمسيرة الكاتب هي الحرب الأهلية ويشير في هذا الإطار إلى ستندال ومعاصرته لحرب نابليون، فبرأي همنغواي أن مؤلف “الأحمر والأسود” هو التلميذ الذي تعلم من الحروب النابليونية. يشار إلى أرنست همنغواي قد عجن روايته “لمن تقرع الأجراس” من طينة الحرب الأهلية في إسبانيا. إذن فالحرب أرضية متشبعة بالمادة الأدبية، فهي تجمع معينات الكتابة، وتسرع الأحداث وتخلق الوقائع والأشياء الكثيرة التي قد لا يصادفها المرء لو عاش حياة بأكملها.

◙ ما تعلمه همنغواي هو أن لا يفرغ بئر كتاباته بشكل كامل إذ يتوقف كلما شعر بأنه لا يزال هناك شيء ما أسفل البئر

فضلا على ما سبق ذكره آنفا يتناول همنغواي ما يفرغ الرواية من الطاقة الإبداعية وذلك يحدث عندما يفشل الكاتب في تحديد المسافة بينه وبين الشخصيات الروائية وتتوارد المعلومات من شتى الأنواع بصوت لا يحمل سوى بصمة المؤلف. وبذلك ينتفخ العمل ويفقد قيمته الفنية.

يرى الناقد كارلوس بيكر بأن همنغواي يفصل بين الاثنين المبدع الحقيقي ومن يريد تطويع الرواية لمناقشة الأطروحات الاقتصادية والسياسية. هذا ليس كل ما يمكن أن تقع عليه ضمن الآراء والتعليقات والتفسيرات المقتبسة من حوارات ورسائل همنغواي بل يسرد شكل تواصله مع الروايات الروسية والفرنسية والأميركية. معلقا على المستوى الإبداعي للأيقونات الأدبية.

 ويتضح مما يقدمه همنغواي عن تجربته الإبداعية أن الكتابة تعني له أكثر من أن تختزل في الصفة المهنية فحسب. عندما سئل عن المحلل النفسي الذي يلجأ إليه حين يداهمه القلق والإرهاق أو الاضطراب رد همنغواي بأنه “آلة الكتابة المحمولة ماركة كورونا رقم 3.”

يدرس الكاتب المصري شاكر عبدالحميد في مؤلفه “الدخان واللهب” ظاهرة الاكتئاب التي تناوش حياة الأدباء والفنانين ويفرد قسما لإرنست همنغواي لافتا إلى أن الأخير قد تلقى مجموعة من الصدمات الكهربائية عبر مخه، وقد كان لذلك مفعول ناجح لتخفيف حدة الاكتئاب، غير أن أحد الآثار الضارة لهذا العلاج هو فقدان الذاكرة وضعفها ما يعني الانسحاب من ملعب الكتابة، وبالطبع إن ذلك يضاهي الموت بالنسبة إلى همنغواي إذ يطلق النار على نفسه في 2 يوليو 1961 وما إن يصل المتابع إلى هذا الحدث في قصة الكاتب حتى يستعيد ما قاله همنغواي “كل القصص إذا امتدت بما فيه الكفاية سوف تنتهي بالموت ومن يخفي عنك ذلك فهو راوِيَ قصص مزيف.”

12