هل يولد الناس موهوبين أم تصقل مواهبهم بالخبرة والمران

يرى بعض الناس بأن الأشخاص الناجحين في حياتهم هم الذين يولدون موهوبين بطبيعتهم، بينما يشدد البعض الآخر على حقيقة أن المواهب تصنع وتشكل بالصقل والمثابرة مع مرور الزمن. والمهم في هذه الإشكالية، أن هذه المفاهيم تلعب دوراً كبيراً في طريقة النظر إلى الأشياء بل وطريقة التعامل مع عدو الحياة، الفشل.
تطرح الكاتبة الأميركية ميليسا بوركلي، تجربتها في الكتابة والألم الذي قد يواجه الكاتب إذا ما قوبلت أعماله بالنقد والتقريع أو بالرفض، بطريقة تجعله ربما يلجأ لمحاولة الاحتفاظ بعمله في أدراج مكتبه عوضاً عن مواجهة آراء الناس القاسية.
لكن بوركلي تؤكد بأنها لا تعبأ أحياناً بركوب المخاطرة وتعريض نفسها لرفض الجمهور، لكونها تكتب من أجل مشاركة الآخرين أفكارها وتجاربها وهذا هو الشيء الذي يسري على كل عمل دؤوب يقوم به الأشخاص من ذوي الاختصاصات المختلفة؛ فالفشل أمر وارد وهم يتعاملون معه كل على طريقته الخاصة.
وتزدحم أعمال الكاتبة بمؤلفات عدة تتوزع بين القصص والروايات والمدوّنات النفسية منها؛ رواية “الفتاة مع وشم التنين” و”كتب الغسق”، وغيرهما من الأعمال.
وبسبب خبرتها المزدوجة في علم النفس وكتابة القصص، تقدّم ميليسا في مدوّنتها الشخصية “مختبر الكاتب”، نصائح عن كيفية تدريب الكتّاب والمؤلفين لدعم وتطوير أعمالهم من خلال تضمين مبادئ علم النفس في كتاباتهم.
ويتسبب رفض الآخرين والإحساس بالفشل بحالة كبيرة من الإحباط، خاصة إذا تزامن هذا مع بدايات حيث يميل المبتدؤون إلى تفسير هذا الرفض بغياب موهبتهم، وبأنهم لا يمتلكون المهارات الكافية للنجاح في حرفتهم. ولهذا فإن الرفض لا يتسبب في الأذى لوحده إنما طريقة تفسيرنا لهذا الرفض.
واجب المجتمع إتاحة الفرصة التي تمكن أفراده من تحقيق إمكاناتهم، تأكيدا على أهمية التعليم في صقل الموهبة
وإذا لاقت أعمال أدبية لكاتب مستجدّ، مثلاً، رفضاً من الجمهور فإنه يميل في الغالب إلى تأويل هذا الفشل على أنه علامة لغياب موهبته في حرفة الكتابة، بصرف النظر عن أسباب رفض الآخرين لأعماله التي قد لا تستند أحياناً على أسس نقدية منطقية، حيث تتدخل في الغالب عوامل كثيرة ربما تتعلق بشخصية الكاتب أو الكاتبة المرأة وطريقة تعاطي المجتمع معها بناءَ على أحكام مسبقة، بدعوة انتماءات فكرية أو سياسية أو لمجرد كون الكاتبة امرأة أو شابة في مقتبل العمر، أما الفشل في هذه الحالة فيشبة (طعنة في القلب) يدخل صاحبه في أزمة نفسية، كما يصفه متخصصون.
وعودة إلى إشكالية الموهبة أم المران، فإن من يعتمد في تقييمه للآخرين بربطه نجاحهم بسبب الموهبة فهذا ما يطلق عليه علماء النفس بـ”العقلية الثابتة”، فالبعض يعتقد أن الذكاء والقدرة الرياضية والموهبة الأدبية هي صفات ثابتة وأن الناس يولدون موهوبين، ووفقاً لهذا المنظور، فإن مسألة النجاح تعد بديهة لهؤلاء وأن الأشخاص الذين يبذلون جهداً كبيراً لتحقيق النجاح في حرفة معيّنة، فهم من غير الموهوبين بالتأكيد وإلا لما تعيّن عليهم بذل كل هذه الجهود، لذلك وجب عليهم البحث عن مسار مهني آخر يتناسب أكثر مع قدراتهم المحدودة.
ويشير عالم النفس الأميركي جوزيف رينزولي، باحث في علم النفس التربوي في جامعة كونكيت الأميركية، الذي عمل على تطوير نظريته في الموهبة وتدعيم فاعلية نموذجه الإثرائي في تطوير البرامج التعلمية وتطبيقها على الواقع في مناطق تعليمية عدة في الولايات المتحدة الأميركية، إلى أنه من واجب المجتمع إتاحة الفرصة المناسبة التي تمكّن أفراده من تحقيق ما لديهم من إمكانات، في تأكيد على أهمية التعليم والمران في صقل موهبة الإنسان وتطويرها.
ويُعتمد تعريف رينزولي للموهبة (الحلقات الثلاثة؛ وهي القدرة فوق المتوسطة والإبداع والالتزام بالمهام) كأساس لنظام الكشف عن الموهوبين، وقد امتد إنجاز رينزولي إلى إعداد نموذج في بناء المناهج واستراتيجيات التدريس، ويقوم هذا النموذج على افتراض مفاده أنه لا يمكن لنا أن نحدّد مسبقاً من هم الطلبة الموهوبون ومن هم غير الموهوبين، كما أنه يبتعد عن إطلاق التسميات والتصنيف، ويُركّز على توفير البرامج الخاصة والملائمة لذوي القدرات العالية والمبدعين من الطلبة على حدّ سواء.
وأسهم رينزولي بدور فاعل في تغيير وجهات نظر المشرفين على تربية المواهب الفكرية.
كما ساعدت أفكاره في تشجيع الناس على الابتعاد عن وجهة نظر سبيرمان في علم النفس والذكاء الفريد، إلى تصور أكثر ليونة في ما يتعلق بالموهبة المكتسبة والدور الذي يلعبه التعليم في اكتشاف الموهبة ورعايتها.
ومن هذا المنطلق، فإن هذا الفرد إذا لم تتوفر لديه شروط أو مواصفات الموهبة وبالتالي لا يقع في فئة الموهوبين، ينبغي لنا التساؤل عن جوانب القوة الأخرى لديه تلك الكامنة في خصائصه الشخصية (العقلية والانفعالية والاجتماعية)، وبالتالي كيف يمكن توظيفها أو إثراؤها كي تعوض جوانب القصور لديه بما يحقق له أفضل الفرص لتحقيق ما لديه من إمكانات. وبالمثل التساؤل عن جوانب القوة في بيئة هذا الفرد، وكيف يمكن توظيفها كي تعوض جوانب القصور بها بما يحقق له أفضل الفرص للنمو، ومن هذا التفاعل الرباعي تتحقق أفضل النتائج.
من جانبها، تؤكد بوركلي أن الفشل هو مجرد تعبير آخر للتعلم، وعلى الرغم من أن نتيجة العمل الذي بذل من أجله والجهد والوقت لم يؤت نتيجة مرضية لصاحبه، فإن خيبة الأمل التي ستأخذ وقتها ستكون ربما خطوة باتجاه طموح جديد يأخذ في نظر الاعتبار الأخطاء السابقة، إذا كانت موجودة بالفعل، للسعي إلى إنتاج آخر، تطوير المهارات والتعرّف إلى إمكانات كامنة في الشخصية يمكنها أن تدعم مفهوم النجاح المقبل، فالطريقة المثلى لمواجهة الفشل هي مواصلة العمل.