هل يوجد سر مسكوت عنه في نهاية أرنست همنغواي؟

ما علاقة موت الكاتب بعائلته وشائعات عمله مع المخابرات السوفييتية.
الأحد 2022/10/09
صياد ومحارب شرس وكاتب إنساني

أغلب الكتاب الذين أبهرت نصوصهم العالم، لم تكن حياتهم أقل إبهارا، في تفاصيلها غير العادية وخفاياها التي تبدو في حد ذاتها حكاية أدبية. وهذا ما ينطبق بشكل تام على الكاتب الأميركي أرنست همنغواي، الكاتب الذي ظلت حياته مثار استغراب ومماته لغزا ما زال محيرا إلى اليوم.

ليس من السهل أن يكتب الصياد قاتل الحيوانات رواية رقيقة مثل “الشيخ والبحر”. ومن غير المعقول أن يقتل هذا الصياد نفسه ببندقية صيد، ليضع لحياته نهاية غير مقنعة قط. سلسلة الحقائق التي خرجت من بيت همنغواي صعودا في التواريخ حتى جده، ونزولا فيها حتى حفيدته تثير أسئلة أكثر مما تجيب عن أسئلة.

انتحر الكاتب أرنست همنغواي، الذي امتاز بواقعية ورجولة ملفتة للنظر، ببندقية صيد طويلة مزدوجة الماسورة من نوع “W. & C. Scott &Son”. عمليا يبدو هذا عبثيا ومضحكا، بل غير ممكن، فالسيطرة عسيرة جدا على بندقية صيد بماسورة مزدوجة طويلة (يصل طول الماسورة إلى 90 سم، وبإضافة غرفة الزناد وقنطرته يصبح بعد الزناد عن سبابة الرامي باتجاه نفسه نحو متر كامل)، وحتما سيكون توجيهها باتجاه رأس الرامي صعبا جدا، والسؤال هنا هو: لماذا يريد همنغواي خبير السلاح أن ينتحر بسلاح من هذا النوع؟ لمَ لم ينتحر بمسدس عادي؟

العنف والكتابة

هذا الرجل القريب من العنف وعالمه، شارك شخصيا في الحرب العالمية الأولى، وفي الحرب الأهلية الإسبانية، كما شارك بصفة صحافي في الحرب العالمية الثانية، فكيف يقرر أن ينتحر ببندقة صيد خردقية؟ لا يبدو لي هذا قرارا منطقيا، أما كان بوسعه أن ينتحر بطريقة أبسط وأكثر حسما؟ أحسب أن القصة أعقد من أن تكون انتحارا غامضا يحسم الموقف. ولابد من الإشارة هنا إلى أن الكاتب همنغواي هو واحد من سبعة منتحرين في عائلته، أولهم كان أبوه كلارنس الذي أطلق النار على نفسه في عام 1928.

كل انتحار يثير سؤلا كبيرا حول سبب الانتحار، وفي حالة همنغواي تتناقض إجابات السؤال وتختلط بوقائع حياته

بعد انتحارهمنغواي في عام 1961، انتحرت شقيقته أورزولا في عام 1966 وهي في سن الثالثة والستين. وفي عام 1982، انتحر شقيقه ليستر بإطلاق النار على نفسه في بيته على شاطئ مدينة ميامي، ليفارق الحياة وهو في سن 54 عاما. ثم انتحرت حفيدته مارغو في شهر يوليو من عام 1996 بتناول جرعة كبيرة من عقاقير الأعصاب.

كل هذه الانتحارات لا بد أن تضع انتحار الكاتب الكبير في سياق أسري موروث، إنها عائلة تغرق في الكآبة، وتعيش أزمة وجودية خانقة موروثة. والمفارقة هي أن والدة أرنست دأبت في طفولته على إلباسه ملابس البنات، وكان شعره يوحي أيضا بأنه بنت، لكن المفارقة هي أنه كبر ليصبح رجلا يعيش في خضم تجارب العنف وفي أتون أكبر حربين كونيتين في التاريخ.

إبداع همنغواي يتناقض إلى حد كبير مع مفردات حياته، فهو مثقف مفعم بالإنسانية، لكنه صياد يحترف قتل الحيوانات لمجرد المتعة، هذه حقيقة وحشية صادمة، فالقتل لأجل المتعة سادية لا تليق بالإنسان، ويكسر هذا التعميم المخيف “سانتياغو” صياد السمك الشيخ في روايته نادرة المثال “الشيخ والبحر”، وهو بطل يجعل الصيد مبررا ما دام يسخر للتغذية وإطعام الفقراء، مع أن أسماك البحرالتهمت طعام الفقراء.

 همنغواي عاشق للأسلحة، لكن رواياته رفضت الحروب وتصدت لها وأشهرها “وداعا للسلاح”، و”لمن تقرع الأجراس”، و”تشرق الشمس مرة أخرى”. هو ليس يساريا لكن شائعات تتردد زاعمة أنه كان صديقا شخصيا لكاسترو الزعيم والرئيس الشيوعي الوحيد في قارتي أميركا. الصورة الوحيدة المتداولة عن هذه الصداقة لا تقول الكثير، لاسيما أن همنغواي انتحر بعد عام واحد من وصول كاسترو إلى السلطة في كوبا.

 عاش همنغواي وزوجته الثالثة 20 عاما في كوبا (من عام 1940 حتى عام 1960، عام قيام الثورة الشيوعية)، أي أنه عاصر الدكتاتور باتيستا، وحين كتب رائعته الشهيرة “الشيخ والبحر” لم يكن بأي شكل يبث بروباغندا شيوعية لكاسترو. كانت الرواية صغيرة الحجم عملا إنسانيا مفعما بالأحاسيس لا تتسرب من ثناياه أي ملامح سياسية.

عميل السوفييت

Thumbnail

نشر جاكوبو تايمرمان عام 1990 في صحيفة نيويوركر تحقيقا ميدانيا مفصلا عن دور همنغواي في كوبا، كاشفا أن صيفا واحدا فحسب مر على همنغواي في ظل زعامة الثنائي اليساري الثوري كاسترو/ غيفارا لشبه جزيرة القصب والحكايا الحزينة، وكانت أدبيات الثورة الشيوعية تروج لفكرة أن همنغواي جزء من المشهد الفكري والثقافي وحتى السياسي في كوبا، “كان همنغواي رمزا ثقافيا، خُلق ليصبح معلما جاذبا للسياح، وليكون آلة دعاية” بمعنى آلة تروج للسياسة وللمناخ الفكري اليساري السائد عالميا في عصر القطبية السياسية. وكتب تايمارمان “الثوريون لم يتعاطفوا حقا مع همنغواي، إذ لم يكن مهتما بكوبا اليسارية قط، ولا بالصراع ضد باتيستا، ولا بمغامرات المسلحين في جبال سييرامايسترا. ومنذ انتحاره في عام 1961، جرت محاولات حثيثة لإبراز معالم تعاطفه مع كوبا… بل كانت الماكنة الإعلامية في كوبا حريصة على الإيحاء للسياح بأن همنغواي كان يدعم كاسترو سياسيا، وأنه كان جزءا من الثورة. والحقيقة هي أن النظام السياسي في كوبا لم ينجح قط في تأسيس رابطة صلدة بين همنغواي والنهج الكاستروي”.

وفي زمن ما تداولت كواليس الأدب والسياسة همسات عن علاقة ذات طابع تجسسي بين همنغواي وقادة الاتحاد السوفييتي. وكشف حوار بثته شبكة البث الإذاعي العام الأميركية “npr” عن جانب غامض في هذا السياق. في برنامج حواري استضافت المحطة موظف الـ”سي آي أي” نيكولاس رينولدز الذي ألف كتابا عن همنغواي اسمه:

Writer, Sailor, Soldier, Spy: Ernest Hemingway’s Secret Adventures

حين كتب همنغواي رائعته الشهيرة "الشيخ والبحر" لم يكن بأي شكل يبث بروباغندا شيوعية لكاسترو أو غيره

 وسألته: كيف اجتذب أرنست همنغواي الأميركي غير اليساري نظر السوفييت فأجاب “كان همنغواي رجلا يبث بقوة الدعاية السياسية، وكان دخول مراكز القرار الكبرى متاحا له، وأحسب أن السوفييت كانوا غير مدركين لما يريدونه منه بدقة، لكنهم بلا شك دأبوا على وصفه بأنه “رجل يملك قدرة كبيرة، وينبغي علينا أن نقنعه بالعمل معنا، وعندها سوف نرى ما هي مستويات قدرته، ربما كان بوسعه أن يصوغ أخبارا لصالحنا، أو لعل بوسعه أن يعرفنا إلى أشخاص يمكنهم مساعدتنا بشكل أكبر”.

وحول سؤال: لقد أنعموا عليه باسم شفري، أليس كذلك؟ أجاب رينولدز: فعلوا ذلك فعلا وأسموه آرغو، وهو اسم ناسبه تماما لأنه كان يستحضر البحار الشهير في الميثولوجيا الإغريقية.

وسأله المذيع “دعني أفهم هذا بوضوح، هل سالت النقود بين الطرفين؟ هل مُررت أي معلومات؟”، فرد رينولدز “لم يكن بين الطرفين أي تداول نقدي، السوفييت اعتمدوا على التجنيد الأيديولوجي، وفي هذه الحالة اشتمل الاتفاق على أجزاء من عقيدتهم السياسية وبعض برامجهم التي وافق همنغواي على أن يتبناها. كان هناك بعض التداخل، فما قبله همنغواي كان جزءا من العقيدة المضادة للفاشية، وهي عقيدة مشتركة بين الجميع ولا خلاف حولها، وحصلنا على معلومة من أضابير السوفييت تفيد بعدم تمرير أي معلومات سياسية ذات أهمية”.

وسأله أيضا “الولايات المتحدة والسوفييت كانا في جبهة واحدة إبان الحرب العالمية الثانية، وهنا باتت طموحات همنغواي مفيدة للمخابرات الأميركية أيضا، تسحرني هنا فكرة همنغواي بتسليح لاعبي جاي آلاي؟”.

رينولدز(ضاحكا)، “إنها فكرة مجنونة، وليس بوسعي تخيل أحد لاعبي جاي آلاي يقوم بهذا الدور”.

وقال المذيع “إنها تبدو مواجهة تخيلية بين غواصة ألمانية عالية التسليح محكمة التقنية وبين قارب صيد على متنه همنغواي…إنها مجرد مزحة في النهاية”.

أسرار الكاتب والكآبة

هل كانت هناك علاقة فعلا بين همنغواي وكاسترو
هل كانت هناك علاقة فعلا بين همنغواي وكاسترو

ميريل همنغواي حفيدته المولودة على شواطئ كاليفورنيا في عام 1961، والتي رشحت لجائزة أوسكار عن دورها في فيلم مانهاتن للمخرج ودي آلان عام 1979، قد أنتجت فيلما وثائقيا تلفزيونيا عن عائلة همنغواي ولعنة الجنون والكآبة والانتحار التي تطارد أفراد تلك العائلة. عرض الفيلم أول مرة عام 2013 ضمن مهرجان سندنس، وتولت تسويقه الإعلامية الأميركية الشهيرة أوبرا وينفري.

الحفيدة المشاكسة تشير بشكل غامض إلى تحرشات جنسية صدرت عن جاك همنغواي والدها ببناته. ومن الصعب حقا قبول هذا الإيماء الذي صدر عن ميريل في معرض حديثها عن تلك التجارب التي تعرضت لها أختاها مارغو وجوان في طفولتهما، لكنها في النهاية شاهد عيان، وحسب إفادتها، فهي قد قضت سنوات عمرها من سن السابعة حتى سن السادسة عشرة تشارك والدتها الفراش… هل كان هذا هربا من الأب المولع جنسيا ببناته؟ هذا ما تقوله ميريل. ولم يتح لي مشاهدة الوثائقي، لكني تعرفت على محتواه بشكل عام من خلال تريلير الفيلم، وهو يبدو إلى حد كبير محاولة من الحفيدة لعرض وقائع الجنون والغرابة التي وسمت حياة هذه السلالة.

كل مشهد انتحار يثير سؤلا كبيرا حول سبب الانتحار، وفي حالة همنغواي تتناقض إجابات السؤال وتختلط بوقائع حياته. صديق همنغواي أ. إي. هوتشنر تساءل عن سبب انتحار شخص “يعتبره أغلب النقاد أهم كتاب القرن العشرين، وهو رجل يعشق الحياة ومسكون بروح المغامرة، وفنان عبقري، وحائز على جائزة نوبل وجائزة بوليتزر، وهو بالغ الثراء ويمتلك بيتا في جبال إيداهو حيث يقضي الشتاءات في الصيد، ويمتلك شقة في نيويورك، ويختا أنيقا صنع خصيصا له لصيد السمك، وشقة باذخة في منطقة رتز الفاخرة بعاصمة الأناقة والنور باريس، وبيتا في فينيسيا، وزيجة مستدامة وأصدقاء في كل مكان”، ثم يمضي هوتشنر ليتساءل “لماذا يضع هذا الشخص رصاصة في رأسه؟”.

إبداع همنغواي يتناقض كثيرا مع مفردات حياته، فهو مثقف مفعم بالإنسانية، لكنه صياد يحترف قتل الحيوانات للمتعة

لكن همنغواي في نهاية حياته كان يعاني على مستوى صحته العقلية وصحته البدنية، فقد أصيب خلال حياته بالملاريا والدزنتري وسرطان الجلد وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع كولسترول الدم. كما عانى من ارتجاجات دماغية لم يشف منها، فصار يعيش صداعا مزمنا، وضبابية في الوعي، وطنينا متصلا في أذنيه.

 ومن عجائب حياته، تعرضه لسقوط طائرة لمرتين، ومن الغريب جدا أنه نجا من الحادثين، لكنهما خلفا له تمزقا في الكبد والطحال والكلى، ورضوضا وكسورا في عدة عظام، وخلعا في الكتف، كما خلفا حروقا من الدرجة الأولى في أنحاء من جسده. وكل هذا كان يدفعه إلى الإفراط في شرب الكحول إلى حد وصوله إلى درجة الإدمان المرضي.

عقليا، ورث همنغواي نوبات الاكتئاب الحاد عن عائلته، وفي الأشهر الأخيرة من عمره، غمرته نوبة اكتئاب وبارانويا مدمرة حسب شهادات أصدقائه وأقاربه، وبات عاجزا عن الكتابة، وهو عجز أثار في نفسه حزنا مدمرا، فالكتابة هي محور حياته الأهم، وحين يعجز عنها، تفقد حياته محورها. خلال تلك الأشهر أدخل المشفى والمصحة مرتين وخضع لعلاج الأعصاب بالرجات الكهربائية، وهو علاج يسلب الفنان موهبته وقدرته على الإبداع، ويحوله إلى كائن خامل غير منتج. وبسبب هذا العلاج انتابت همنغواي نوبة الكآبة المدمرة الأخيرة التي قضت عليه.

كل هذه الأسباب تعزز لدى المتابع قناعات بأسباب انتحار أرنست همنغواي، لكن على المستوى الشخصي، يبقى سؤال مهم وصعب يؤرقني ويثير في نفسي شكوكا لا نهاية لها ألا وهو “امتلك همنغواي ترسانة سلاح كبيرة، وفي صبيحة يوم انتحاره، نزل إلى حيث مشجب أسلحته، وانتقى بندقية صيد (تعرف في العراق باسم كسرية)، واختارها لينهي بها حياته، لماذا انتحر همنغواي ببندقية صيد “صاجمية” ذات ماسورتين كان يستخدمها في صيد الطيور؟ كيف يمكن أن يوجه المرء بندقية من هذا النوع إلى رأسه ويطلق النار على نفسه؟ هل يوجد سر مسكوت عنه في نهاية أرنست همنغواي؟”.

13