فيسبوك يقدم بعدا جديدا لشكل الصداقة بين البشر

بون (ألمانيا) – تملك “س.ج” التي فضلت عدم ذكر اسمها 5 آلاف صديق على فيسبوك، و200 ألف متابع وكان هذا سبباً كافياً لانفصالها عن زوجها كي تتفرغ لفيسبوك ويوتيوب، فهي تنزل فيديوهات على يوتيوب تصل أعداد الإعجاب بها إلى مئات الآلاف، ما يجعلها تحثّ الخطى لإرضاء الجميع وحصاد اللايك وتعليقات الإعجاب.
وتفاقم الأمر حين انتشر حسابها على واتس آب وعرفه كثيرون، فباتت تتلقى مئات الرسائل والصور يوميا. ويبلغ وزن س.ج اليوم 80 كيلوغراما وهي ما زالت دون الثلاثين من العمر وطولها 162 سم.
وقالت في تصريح لـ”العرب” حول عدد الساعات التي تقضيها في اليوم مع وسائط التواصل الاجتماعي، إنها تملك لاب توب وتابلت وهاتفين ذكيين، وكل البرامج عليها تشتغل بشكل مستمر، مرجّحة أنّها تقضي ما معدله 10 ساعات في اليوم مع وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنّها استدركت أنّ هذا ليس ثابتا، فهي تقضي شطرا طويلا من الليل أحيانا في التفاعل على تلك الوسائل.
وأوضحت “أنا مقيمة في قرية صغيرة قريبة من مدينة أوروبية تكللها الثلوج أغلب السنة، وبالتالي فإنّ كل صداقاتي على فيسبوك وواتس آب، في الحقيقة أنا لا أعرف أحدا في قريتي ولا المدينة لأنني قليلة الخروج إليها”.
هكذا تعيش س.ج وسط الآلاف من الناس وهي وحيدة، وهذه حالة ليست نادرة، بل تهدد نسيج الحياة الاجتماعية الحقيقية لكل مستخدمي وسائط التواصل الاجتماعي وعدد مستخدمي فيسبوك منهم حصرا يزيد عن 2 مليار مستخدم.
صداقة فيسبوك مجانية!
صداقة فيسبوك سريعة سهلة وغير مكلفة، بل هي مجانية، والشيء المجاني في الكثير من الثقافات غير جدير بالعناية والتقدير.
وتنتاب المدمنين على استخدام فيسبوك خاصة حالة شبه مرضية تتجلى في نزوعهم المستمر إلى حصاد اللايك والتعليقات، ما يجعلهم يراقبون نشاط حساباتهم بشكل دائم، لكن إلى هذا الحد قد يبدو الموضوع طبيعيا لا غبار عليه، لكنّ الأخصائيين يرون أنّ هذا بداية عارضٍ مرضي.
10 ساعات يوميا هي المدة التي يقضيها البعض مع وسائل التواصل الاجتماعي
وفي هذا الخصوص تحدثت الصحافية سمر كرم المتخصصة في وسائل التواصل الاجتماعي إلى “العرب” كاشفة أنّ “هناك علاقة بين استخدام فيسبوك وإفراز دوبامين، وهو انزيم يمنح إحساسا بالسعادة، ويُفرَز في الجسم عادة عند تناول الكحول والسجائر، إنه سبب لإدمان حقيقي”.
لكنّ المشكلة التي قلما ينتبه إليها الناس هي أنّ فيسبوك ينزع عنهم صداقاتهم الحقيقية، لأنهم يعتبرونه الجامع بين المتباعدين والمعيد للحمة صداقات تلاشت وتآكلت عبر الزمن وظروف الحياة، فهذه الوسيلة السحرية التي لم تخطر قط على بال البشرية منذ بدء الخليقة إمكانية التوصّل إليها، تغيّرُ كلّ شيء حولنا وفي ذواتنا. أصدقاؤنا المقربون الحقيقيون موجودون معنا على فيسبوك، ونراهم ونطّلع على فعالياتهم وتنقلاتهم وإنجازاتهم وحيواتهم عن كثب كل دقيقة.
ويضع على سبيل المثال أحد أصدقائي ويدعى حسن، وهو قاطن في أستراليا، صورة لبيته ما يجعل المئات من متابعيه عبر العالم يتتبعون التعديلات التي يجريها على حديقته من حين إلى آخر، ولم يكن بإمكاني في السابق معرفة أخباره رغم وجودنا في البلد نفسه، إذ كان يسكن الموصل وكنت أسكن بغداد.
ويعد هذا مثالا حيا من بين آلاف الأمثلة المشابهة التي تصادف الكثيرين اليوم، لكنّ هذا التقارب الصميمي العابر للزمن والمسافات والمكان له أضراره، إذ لم يعد أيّ من أصدقاء حسن بحاجة إلى رؤيته وجها لوجه وهم يعرفون عنه كل ما يهمهم. والأمر يتوالى بهذا الشكل بنسب متفاوتة مع الجميع. وبهذا تبقى صداقة فيسبوك فيما تذوي الصداقة الحقيقية.
ويقلل فيسبوك في أغلب أنحاء العالم مستوى علاقات ذوي القربى، وهكذا فإنّ أغلب الناس لا يقبلون كل أقاربهم على فيسبوك بعدما كشفت لهم هذه الوسيلة أنّ رابطة الدم لا تعني بأي حال أنّ ابن عمك وابن خالتك يشبهانك!
وهذا الكشف المعرفي الموسوعي عن دواخل نفوس الناس، يجعلنا غالبا ننأى بأنفسنا عنهم، ونرفض أن نكون بالقرب منهم بشكل مستمر خوفا من أن يرون دواخلنا كما نرى دواخلهم، وبالتالي فإنّ فيسبوك سلاح ذو حدين بحق الصداقة.
وبواسطة فيسبوك وقدراته التقريبية المرعبة، صار بإمكان كاتب أي مقال أو تغريدة أن يحصل على تعليقات وآراء من مختصين وصحافيين، ومن أشخاص آخرين يمكن اعتبارهم ممثلين عن الرأي العام، وهذه الميزة لم تكن متاحة من قبل، فقد تحوّل فيسبوك إلى وسط حيوي يمكن أن تنجز فيه ما تشاء تقريبا، ولكنّ ذلك يعتمد بالطبع على كيفية استخدامه.
وقال ياسر أبومعيلق، صحافي وإعلامي بمؤسسة دويتشه فيله الألمانية، إن “فيسبوك بدأ كوسيلة للتواصل مع أصدقاء الوطن ومن تفصلنا عنهم مسافات جغرافية شاسعة، كي نتواصل ونطلع على أخبار بعضنا البعض اليومية. لكن مع دخول فيسبوك النطاق الإعلامي والتجاري، بات عبارة عن منصة مفتوحة وحرة وآمنة -نسبياً- لتبادل الأفكار وحتى نشرها. فطلب الصداقة على فيسبوك لا يتطلب أكثر من ضغطة زر، بينما بناء صداقة حقيقية يتطلب سنوات من التواصل الدؤوب”.
|
وأضاف أبومعيلق لـ”العرب” أن فيسبوك أصبح “أداة عملية أكثر منه وسيلة للتواصل”. لكنّ عماد الدراجي لا يوافقه الرأي؛ إذ يقول إن “أغلب الصداقات في الواقع تكون مفروضة بحكم العمل المشترك أو الغربة أو أداء الخدمة العسكرية، وحتى الجيران والأقارب أكثرهم يُفرضون فرضا. أما الفيسبوك فيوجد فيه مجال شاسع للاختيار والرفض أيضا”.
وأشار منتظر الفاضلي، ناشط عراقي على موقع فيسبوك، إلى أنّ “إضافة الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي محكومة منذ البداية بمكان الدراسة أولا ثم العمل ثم بعد ذلك يأتي موضوع الأيديولوجيا، إذ لا يمكنني كشخص إضافة أطراف معينة لأسباب كثيرة منها الأسباب الأمنية بحكم مكان سكني وخطورة حرية الكلمة على مصالح البعض”.
وقال إن “الطريف في الموضوع هو اتفاق 99.99 بالمئة من العراقيين على حظر أقاربهم على فيسبوك خصوصا لأنهم كأبراج المراقبة المتنقلة”.
واعتبر الفاضلي أن “فيسبوك المتنفس والمهرب من الواقع البائس والنافذة المجانية على العالم والحائط الخاص بي للنشر وسهولة التواصل مع الأصدقاء المنتشرين في أغلب محافظات العراق، وهو لا يغني عمن يمثلون الصداقة الحقيقية لأنهم هم أصدقائي الفعليين إلا القليل النادر”.
الصداقة الحقيقية تحتضر
سيقضي فيسبوك في المدى البعيد على علاقات الصداقة الحقيقية، خاصة أن الناس صاروا لا يميلون إلى تكرار لقاء الأصدقاء الذين يعرفونهم حقا والموجودين معهم على فيسبوك في ظل برودة العلاقات الإنسانية.
كما أنّ فيسبوك مكان يعرض فيه الناس أحسن ما عندهم وقد لا يملكونه أصلا، فمن السهل على أي شخص أن يعلّق مقتطعا (مسروقا) من النت على لوحة فنية متصنعا مشاركتك التذوق، لكنّه في الحقيقة لا يملك أي معرفة أو ذائقة فنية. وهذه المثالية الفسيحة قد لا تتيحها علاقات الصداقة الحقيقية. وفي هذا الخصوص علّقت خلود جادر قائلة “الصداقة الفيسبوكية هي صداقة افتراضية مبنية على تبادل الأفكار وهناك الكثير من الناس يتصنعون ما ليس من طبعهم، كما أن اللقاء والألفة لا يتمّان على أرض الواقع، لهذا فإن الصداقة الفيسبوكية لا تمثل إلا نسبة 10 بالمئة من مكونات الصداقة بمعناها العميق”.
وتابعت جادر “وكما يقول المثل ‘الصديق وقت الضيق’ فهل الصداقة الفيسبوكية تستطيع أن تتبوأ هذه المكانة؟ بالطبع لا، لهذا أعتبر أن الصداقة الحقيقية هي التي بُنيت على التعامل الحقيقي والتوافق الفكري واللغة المشتركة والألفة”.
واقترب من هذا الرأي الكاتب والباحث الأكاديمي أحمد خالص الشعلان بقوله “الصديق الافتراضي ليس كالصديق الحقيقي، كلنا نلبس أقنعة بهذا القدر أو ذاك! الصديق الافتراضي لا يرى منك سوى ما يوازي العُشر الذي يطفح فوق سطح الماء من جبل الجليد، أما الصديق الحقيقي فبالعكس يرى العشر الذي فوق الماء ومعه خمسة أو ستة أعشار مما خفي تحت سطح الماء”.
علاقات تظل افتراضية
أما الناشط إدوارد بيباوي فعلّق قائلا “فعلا نقضي وقتا طويلا مع أصدقاء وسائل التواصل الاجتماعي، نحاورهم ونجاملهم، وقد نلتقيهم في الحياة ولا نعرفهم إلا من أسمائهم، ولكن الصداقة الحقيقية لا تموت أبدا، تماما كالجريدة الإلكترونية لا تسعدك كما كانت الصحيفة الورقية التي تلمسها وتشم رائحة الورق والحبر وتقلب صفحاتها بيديك، تحتفظ ببعضها في أرشيفك، وتعود إليه كلما دعت الحاجة، وهي أيضا كالكتاب تقرأه وتحافظ عليه وتوقره بمكان مميز في مكتبتك وتنظر إليه من وقت لآخر، ونفرح به كطفل وليد في بيتك تداعبه من حين لآخر”.
بواسطة موقع فيسبوك وقدراته التقريبية، صار بإمكان كاتب أي مقال أو تغريدة أن يحصل على تعليقات وآراء من مختصين وصحافيين
وفات بيباوي أنّ الصحافة والكتاب الورقيَّيْن يسيران نحو الانقراض، فهل تسير الصداقة الحقيقية هي الأخرى إلى انقراض محتمل بسبب قوة وتنوع وشساعة مساحة الصداقات الافتراضية؟
وجاءت آراء كثيرين في صالح الصداقة الحقيقية، معتبرين أنّ الصداقة الافتراضية تفتقد الكثي من مقومات الصداقة الحقيقية.
وقال أياد لطيف -كاتب- “مَن معدنه ذهب يبقَ ذهبا أينما كان، والبقية عندك!”، فيما علّق عبدالله فوزي -ناشط على فيسبوك- في الاتجاه نفسه مشيرا إلى أن “الصداقة الحقيقية لا تموت أبدا والصداقة المجانية التي يقدمها فيسبوك لا تشغلك عن أصدقائك الحقيقيين لكن ما يشغلك عنهم حقا هو عملك أو أن تحكمك ارتباطاتك العائلية لكن هذا لا يعني القطع الكلي معهم إذ من الضروري أن تتواصل معهم، ومع ذلك هناك أمور إيجابية وسلبية ومعلومات تكسبها من صداقات الفيسبوك؛ أي أن هذه الصداقة المجانية أحيانا تكون ذات مكسب وأحيان لا”.
أما الباحث هشام العلي ففسر صداقات فيسبوك باعتبارها علاقات سريعة غير مجدية غالبا، قائلا “أغلب الصداقات تحمل في طياتها مصالح مشتركة تتركز على الإعجاب والتعليق من أجل الانتشار الذي يشبع غريزة حب الشهرة والتألق، لكن من خلال تجربتي وجدت أنه من بين ألف صديق هناك 10 أصدقاء تقريبا أشعر معهم بصداقة حقيقية أقوى من رابطة فيسبوك كوني وجدت فيهم صفات تلائم توجهاتي أو خفة دم أو ربما أشياء أخرى”.
وذهب إلى الرأي نفسه رواء حمدي رشيد بقوله “لا توجد أدنى مقارنة بين الصداقة الحقيقية على أرض الواقع والصداقة على الفيسبوك، للأسف أغلب صداقات الفيسبوك تبنى على المصالح بحيث يثق طرف منهم بالآخر ظنا منه أنه اكتسب صديقا حقيقيا، لكنه يصطدم بحقيقة أنه كان مخطئا حين منح هذا الشخص لقب الصديق”، فيما اعتبر د.مصطفى أنّ “الفضاء الافتراضي عموما هو فلسفة معقدة بعض الشيء، يمكن أن تجد فيه صديقا أفضل من صديقك الواقعي في الحياة. وأحيانا يكون العكس.
وأحيانا يكون هناك توازن بين الافتراضي والواقعي، هذا حسب تفكير ورؤية صاحب الصفحة”.
ورجّح الناشط المدني رياض البغدادي أنّ “الحديث مع أصدقاء العالم الافتراضي يفتح آفاق للحرية في الطرح أوسع من الحديث مع الصديق في العالم الواقعي حيث تتحدد حريتك بنظراته وملامح وجهه التي تتغير إثر كل كلمة تنطقها”.
ولا يناقض كل هذا الجدل حقيقة أنّ المتبقي من وقت البشر ومن مساحة علاقاتهم المرتبطة بالعمل والتزامات الأسرة لم يعد يتيح لهم فرصة لقاء الأصدقاء الحقيقيين لاحتساء فنجان قهوة، أو لمشاهدة فيلم إلا في فترات متباعدة، ولماذا يذهبون إلى دور السينما إذا كانوا يملكون تقنيات الاشتراك الحديثة “أمازون فاير تي في ستك” أو غيرها، وهي تتيح للمرء أن يشاهد أيَّ فيلم حديث في بيته على شاشة “سمارت تي في”، ويحاور الأصدقاء خلالها على مسنجر فيسبوك أو على واتس آب، وكل ذلك سيكلفه أقل من دولار واحد، وهذا مقارنة بتكاليف لقاء صديق أو الذهاب إلى دار سينما وبعد ذلك الذهاب إلى مطعم لتناول العشاء!
كل الأشياء متصلة ببعضها البعض وتصب في عالم السايبر، فجل البشر دائما معا على الفضاء الافتراضي لكنهم ليسوا قريبين من بعضهم البعض لمسا وأنفاسا وروحا قط! معادلة تضع كل العلاقات البشرية بما فيها الصداقة على شفير الانهيار أو التجدد الافتراضي.
كاتب عراقي