هل يقتنص الجزائريون فرصة الاتفاق مع موريتانيا

وقّع الجزائريون اتفاقا دفاعيا مع موريتانيا، ولم يعلنوا عن محتواه، ورغم ذلك، فهم يتحدثون عنه باهتمام بالغ ويقدمونه على أنه مكسب مهم. وبالطبع، فهم لا ينظرون إلى موريتانيا كشريك عسكري في معارك قادمة، لأنهم قد لا يحتاجونها بسبب الفوارق الكبيرة في العدة والعتاد.
لكن أهمية الاتفاق في توقيته، حيث يأتي للرد على من يصف الجزائر بأنها معزولة، وأنها لم تفلح في بناء صداقات متينة إقليميا ودوليا. وهذه معضلة جزائرية ترتبط بتعقيدات لها علاقة بثورة نوفمبر 1954، وشعور الجزائريين بأنها ثورة غير مسبوقة في التاريخ، وأن الذين قدموا مليونا ونصف مليون شهيد لا يقبلون الرضوخ لأيّ كان ولا المجاملة. وخطاب الثقة بالنفس، الذي أسست له الثورة، تحول مع الوقت لدى جزء من النخبة الجزائرية إلى استعلاء في العلاقة مع المحيط وإلى مسوّغ للصدام ولو على تفاصيل صغيرة.
وفي الأشهر الأخيرة وجد المسؤولون الجزائريون البلاد تواجه تعقيدات مختلفة مثل التصعيد مع فرنسا بسبب حروب الذاكرة والتمسك بشرط اعتذار باريس عن التاريخ ليتزامن الشطط الجزائري في المطالب مع صعود اليمين في فرنسا وإطلاق رموزه تصريحات مستفزة حول الكثير من التفاصيل.
◄ توقيع الاتفاق الدفاعي مع موريتانيا يوفر فرصة مهمة للجزائر من أجل أن تغير علاقاتها المغاربية نحو الشراكات التي تدوم طويلا وتحمي الأمن القومي دون صفقات سلاح
تعثرت رغبة الرئيس عبدالمجيد تبون لرأب الصدع مع فرنسيا والاحتماء بالثقة بينه وبين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لوقف التوتر بين البلدين. صارت الجزائر تطارد تصريحات اليمين وتردّ عليها تفصيلا وراء تفصيل.
وعلى الحدود الجنوبية تعيش الجزائر على وقع توتر أمني لا يهدد أمنها القومي فقط، ولكن يمس أيضا من قيمة الجزائر ووزنها الإقليمي بعد تراجع القيادة العسكرية في مالي عن اتفاق المصالحة الذي رعته الجزائر في 2015، وخاصة في ضوء لجوء باماكو إلى حلفاء جدد بدءا بفاغنر الروسية ثم الدعم الروسي المعلن، وصولا إلى الدعم التركي بالمسيّرات لسلطات مالي وتمكينها من مطاردة فصائل أزوادية محسوبة على الجزائر، واستهدافها المتكرر بإمعان يشير إلى استفزاز الجزائر.
والمفارقة أن تهديد حدود الجزائر مع مالي يتم من حلفاء ظل الجزائريون يعتبرونهم شركاء إستراتيجيين مثل روسيا التي لم تكف معها الاستثمارات وصفقات السلاح الكبرى. أيضا تركيا، التي فتح الجزائريون لها الباب على نطاق واسع لترسيم نفوذها الاقتصادي والثقافي والتاريخي، لكنها اختارت بيع المسيّرات إلى مالي على عقود الجزائر.
ويمثل الاتفاق مع موريتانيا متنفسا للسلطات الجزائرية، تُفرح به نفسها إلى أن تسترد أنفاسها، وتُطمئن به الجزائريين على أنها ليست في عزلة تامة، وأنها قادرة على المناورة.
وتحس الجزائر بأنها قد ورطت نفسها على أكثر من جهة، ما يمكن أن يجعلها تمعن في ارتكاب المزيد من الأخطاء وزيادة الأعداء في محيطها، ومثل هذه الأخطاء ليست من مصلحة أحد. والوصول إلى اتفاق، بقطع النظر عن محتواه، من شأنه أن يحد من سياسة التصعيد وإطلاق الاتهامات في اتجاهات مختلفة، ويمكن أن يوفر فرصة لمراجعة المواقف والبحث عن توسيع دائرة التهدئة.
◄ من الواضح أن ملف الصحراء قد خرج من دائرة ليّ الذراع واستعراض القوة وبات ملعبا للمفاوضات والتحركات الدبلوماسية
وأهمية الاتفاق مع موريتانيا بالأساس في أنه يحمل إشارة إلى مجالات التهدئة في الجزائر، فليس مهمّا أن تكون للجزائر علاقات هامة مع الصين وروسيا وتركيا وقطر بقدر أهمية علاقاتها في دول الجوار. فالاتفاق يشير إلى أن الجزائر باتت ترى في أن الحل يكمن في التسويات مع المحيط الإقليمي.
صحيح أن موريتانيا ليست قوة عسكرية في حجم المغرب مثلا، لكن وجودها في صف الجزائر يمكّنها من وضع ترتيبات مع شريك معنيّ مباشرة بالأمن الإقليمي. موريتانيا أهم لأمن الجزائر من روسيا وتركيا بالرغم من اختلاف الأحجام، فهي بلد تفرض عليه الجغرافيا الالتزام بالتفاهمات، كما أنه يستفيد بشكل مباشر من التفاهمات لأمنه، فما تخشاه الجزائر من تطورات مالي تخشاه موريتانيا بنفس الدرجة، وستكون الأكثر حرصا على إنجاح الاتفاق الدفاعي، لمواجهة تسلل الجماعات المتشددة، وتسلل المهربين.
نقطة الخلاف بين الجزائر وموريتانيا تكمن في تأويل الاتفاق، هل هو اتفاق أمني خاص بإدارة تداعيات أزمة مالي أم له أبعاد أخرى؟ بلغة أدق هل تريد الجزائر من الاتفاق أن يشمل تحالفا بوجه المغرب أم لا؟ الوضوح مهم للجزائر نفسها لأن موريتانيا تبدو حريصة على بناء علاقات متوازنة بين مختلف دول الإقليم المغاربي، فبعد يوم من إعلان اتفاقها الدفاعي مع الجزائر توصلت إلى اتفاق مع المغرب لإنشاء أول سوق للأوراق المالية في موريتانيا.
وجاء في بيان مشترك “يأتي توقيع هذا الاتفاق ليترجم التزام موريتانيا الراسخ بتحديث بنيتها الاقتصادية وتنويع مصادر تمويلها وتعزيز قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية“.
ويوحي التزامن بين الحدثين أن موريتانيا لا تريد أن تكون في حلف هذا أو ذاك. ومثلما أن لديها مصالح مع الجزائر، فلها مصالح مع المغرب، خاصة أن موريتانيا على مشارف أن تصبح بلدا منتجا للغاز، ولا شك أنها ستكون في حاجة إلى الأنبوب الذي يجهزه المغرب ونيجيريا لتصدير الغاز نحو أوروبا، والأمر نفسه بالنسبة إلى السنغال.
الفكرة المهمة هنا أن الجزائر يمكن أن تؤسس شراكة متعددة الجوانب مع موريتانيا أو تونس أو ليبيا على أن يكون ذلك تحت مظلة التأسيس للشراكات الجماعية في المنطقة المغاربية على المدى الإستراتيجي سواء بشكل ثنائي أو ثلاثي أو رباعي أو خماسي. وهنا يأتي الحديث عن اللقاء الثلاثي بين رؤساء تونس وليبيا والجزائر. لقاء تثار حوله الأسئلة باستمرار بالرغم من التطمينات الجزائرية بأن الهدف من التجمع تجاوز جمود الاتحاد المغاربي وليس بديلا له.
◄ على الحدود الجنوبية تعيش الجزائر على وقع توتر أمني لا يهدد أمنها القومي فقط، ولكن يمس أيضا من قيمة الجزائر ووزنها الإقليمي بعد تراجع القيادة العسكرية في مالي عن اتفاق المصالحة
من المهم أن تمر الجزائر في علاقتها بالتجمع الثلاثي من مرحلة الاستثمار السياسي والإيحاء بالتأثير الإقليمي، وهذا حق لها، إلى مرحلة يتم فيها تحويله إلى عنصر فعّال لحل القضايا الخلافية وبينها معضلة المياه المشتركة. اللجان لا تسرّع بالحل، وحدها العزيمة السياسية هي التي تحقق ذلك. ويضاف إلى ذلك بناء علاقات اقتصادية واعدة وضخ الاستثمارات وعقد اتفاقيات سريعة التنفيذ.
والحقيقة أن الجزائر بدأت في بناء علاقات جيدة مع دول مثل موريتانيا وتونس من خلال تعزيز الثقة عبر مشاريع مشتركة وتسهيلات على المناطق الحدودية، وهي فكرة يمكن توسيعها لتشمل ليبيا والمغرب، وهذا يتطلب جرأة أكبر من خلال التفاعل أكبر مع عروض المغرب بفتح الحدود.
لا يعني فتح الحدود من جانب الجزائر التخلي عن مقاربتها لموضوع الصحراء أو التنازل عن موقفها. فتح الحدود سيعني تحييد الموضوع الخلافي ومنعه من عرقلة التعاون الاقتصادي والاجتماعي والأمني مع المغرب وكسر حالة التوتر وترك حل الخلاف لعامل الوقت.
من الواضح أن ملف الصحراء قد خرج من دائرة ليّ الذراع واستعراض القوة وبات ملعبا للمفاوضات والتحركات الدبلوماسية خاصة بعد ما طرأ من تغيير في مواقف دول مهمة مثل الولايات المتحدة وإسبانيا وفرنسا. هذا أمر يفيد الجزائريين في فهم أن الملف طال أو قصر ينتهي إلى حل دبلوماسي، وأن الأفضل تحييده وبناء علاقات حسن جوار مع المغرب بأرضية تقوم على دعم المصالح المباشرة للناس بمن في ذلك الجزائريون الموجودون على الحدود وجمع العائلات التي أعاق غلق الحدود لمّ شملها.
إن توقيع الاتفاق الدفاعي مع موريتانيا يوفر فرصة مهمة للجزائر من أجل أن تغير علاقاتها المغاربية نحو الشراكات التي تدوم طويلا وتحمي الأمن القومي دون صفقات سلاح.