هل يعتذر الإسلاميون عن دورهم في التمكين للإرهاب

الأحد 2015/12/06

يتبرأ الإسلاميون في تونس من أيّ صلة لهم بما يجري من عمليات إرهابية رغم كل الاتهامات التي توجّه إليهم، ويميلون إلى التفسير السّهل الذي قد ينقل الكرة إلى ملعب غير ملعبهم، خاصة الاتكاء على اتهام الدولة العميقة التي صارت بمثابة المشجب الذي يعلق عليه الجميع فشل سياق ما بعد الثورة.

ولا تنفك أوساط الإسلاميين في تونس، بمن فيهم نشطاء مقربون من حركة النهضة، تردد أن العمليات الإرهابية التي يجري تنفيذها هي عمليات موجهة من داخل المنظومة القديمة التي تحكم البلاد من الخمسينات، وأن لوبيات مالية وأمنية تستعمل الإرهاب لفرض نفسها ودعم نفوذ ارتباطاتها الخارجية.

ويعكس هذا التفسير التآمري بالدرجة الأولى تنصلا من أيّ مسؤولية تجاه ما يجري في البلاد من فوضى وعنف، تنصل من تجربة حكم استمرت سنتين ومثلت فرصة نادرة للمجموعات المتشددة للاستقطاب وإقامة معسكرات التدريب وتوفير السلاح، فيما كان قادة من النهضة يأملون باستيعاب هذه المجموعات وتحويلها إلى ورقة ضغط لإثبات اعتدالهم ومدنيتهم، فضلا عن استثمارها كقاعدة انتخابية عريضة.

لم يكن قادة النهضة يتخوفون من السلفيين الذين بدأوا وقتها حملات استهداف وجوه مدنية وتكفير المبدعين، كان ثمة أمل في أن ينجح “المشترك الإسلامي” في ترويض السلفيين، لكن الأمل تلاشى بدءا من الهجوم على السفارة الأميركية يوم 14 سبتمبر 2012 تحت حكم النهضة.

ومثلت حركة النهضة، ذات الهوية الإخوانية، لأكثر من 40 عاما فضاء جامعا لأجيال متناقضة، بينهم فئات تميل إلى تونسة الحركة وتخفيف غلوها، وكثير من المغادرين الغاضبين على غموض هويتها الدينية ولعبها على الحبال.

وما جمع بينهم أنهم تربوا داخلها لسنوات على أن الإسلام يجب أن يسود، وأن الأنظمة التي لا تحكم بما أنزل الله أنظمة كافرة وجب قتالها، وأن “الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”.

وهي الشعارات التي استمر بحملها الغاضبون من تذبذب مواقف الإخوان تجاه تنفيذ شعاراتهم الأولى بحد السيف. والمفروض هنا أن تعلن حركة النهضة ومختلف الجماعات المتفرعة عن الإخوان (ولو فكريا) اعتذارها عن الدور الذي لعبته أدبياتها في نشوء أجيال تؤمن بحاكمية الإسلام وبالجهاد وتحكيم الشريعة ولو بالقوة.

ستقول الحركة إنها تجاوزت هذا الخطاب، وإنها تبرأت منه، لكن لا يمكنها أن تنفي أن لها مسؤولية تربوية وأخلاقية في نشوء التيار المتشدد، وأحد أسبابه صدمة مئات الشباب الناجمة عن تراجعها عن أدبياتها وتبرّئها من مبدأ تحكيم الشريعة وفرضه في الدستور مصدرا للتشريع.

ولا يعلم المرء كيف يمكن أن تتجاوز الحركات الإسلامية خطابها ومرجعيتها بيسر دون مراجعات مدونة وظاهرة للعيان تتبرأ من العنف كثقافة، وتولي تأصيل خطاب التسامح والتناقض مع داعش والقاعدة تأصيلا مرجعيا لا تحكمه التقية ولا الرغبة في طمأنة أيّ جهة واسترضائها.

وإذا كان الإخوان قد تخلوا عن هذا الطريق لاعتبارات تكتيكية أو براغماتية، فإن الأجيال التي تربت داخل الجماعة (بفروعها المختلفة) أو على هامشها مرددة مقولات سيد قطب أو أبو الأعلى المودودي أو سعيد حوى لم تتراجع عن الحلم القديم.

ولم يغير التيار الجهادي جوهر فكره الإخواني، لكن طور أساليبه لفرض هذا الفكر بقوة السلاح، واستبدل التقية الإخوانية للوصول إلى التمكين في الأرض بخطاب يتبنى العنف في أكثر وجوهه دموية وفق مدونة “إدارة التوحش” لأبي بكر ناجي التي تمثل النص المرجعي لتنظيم داعش.

هل يمكن أن يعتذر الإسلاميون في تونس أو في مصر أو في أيّ مكان آخر عن هذا التراث الذي يؤسس للعنف وسيلة وحيدة للتمكين؟

الإسلاميون يسوّقون أنفسهم للعالم أنهم دعاة للسلمية ويتبنون الديمقراطية الغربية بحذافيرها ولم يعودوا يبحثون عن المشترك بينها وبين الشورى في سعيهم القديم للجمع بين المتناقضات المعرفية، لكنهم يعجزون عن الاعتذار عن تراث العنف الذي تربوا فيه وساعدوا على انتشاره بحماسة، والذي هو أحد أسباب انتشار الكراهية ضد الإسلام لدى الغرب الذي يغازلونه للقبول بهم في لعبة تغيير الأنظمة التابعة.

ويحتاج الاعتذار إلى شجاعة فكرية وسياسية لا تتوفر لدى الإسلاميين، على الأقل حاليا، الذين ما زالوا يؤمنون في قرارة أنفسهم أنهم يحملون رسالة ربانية، ولا يمكنهم أن يعتذروا عنها ولو من باب التقية لأن ذلك يؤدي بهم إلى فقد صفة الربانية التي تعني تنزيه الجماعة وأفعالها واعتبارها الفرقة الناجية ولا شك أن التنازل عن الربانية يعني التنازل لداعش عن قيادة العالم، وأن هامش المناورة لدى الإخوان “المعتدلين” لا تسمح لهم بتنازلات تمس الأسس والهوية التي جعلت من التنظيم تنظيما دوليا مترامي الأطراف، وهي الحاكمية التي يرفعها داعش في العلن ويتمسك بها “المعتدلون” في السر ويعملون على التمكين لها.

لكن الإسلاميين لا يمكنهم أن يتنازلوا عن احتكار صفة الربانية لأن الأمر يعني ببساطة أن ينزعوا عنهم الرداء الذي يجعلهم التيار الأوسع انتشارا في المنطقة، ما يقود إلى فقدانهم الشرعية الدينية التي أوصلتهم إلى البرلمانات، وجعلتهم يمتلكون امبراطورية مالية كبرى، وسيعني تخلي الناس البسطاء عنهم إذا تخلوا عن شعار “الإسلام هو الحل”.

وهذا المآل لمسه المشرفون على حركة النهضة في انتخابات 25 أكتوبر 2014، ذلك أن من أسباب تراجع تمثيلهم في البرلمان انفضاض الكثير من المتدينين من حولهم وخاصة منتسبي أنصار الشريعة (الذي يرفع الآن السلاح في وجه الدولة) وتيار السلفية الواسع، بعد قرار النهضة بالتخلي عن المطالبة بفرض مبدأ تطبيق الشريعة في الدستور.

وتشهد الحركة تململا واسعا لدى جمهورها بعد النأي بنفسها عن عزل وزير الشؤون الدينية عثمان البطيخ لعدد كبير من الأئمة المحسوبين عليها، وهو ما سيزيد من حدة الانسحابات بسبب غموض الصفة الدينية للحركة وفق ما صاغتها أدبياتها منذ أن كانت تحمل اسم الجماعة الإسلامية (على الطريقة الباكستانية) ثم لاحقا الاتجاه الإسلامي وخاصة وثيقة الرؤية الفكرية، وهي الوثيقة التي تتبنى فيها المنهج الأصولي السلفي، ولم تحدث عليها أيّ مراجعة إلى الآن.

وليس هناك شك في أن الاستمرار بمناورة الحزب المدني التي لجأت إليها حركة النهضة في مواجهة ما تسميه عادة بـ”إكراهات الواقع” سيقودها إلى خسارة المزيد من الجمهور الذي ناصرها باعتبارها حركة دينية ترفع شعار تطبيق تعاليم الإسلام حال وصولها إلى السلطة.

إن اعتذار أيّ تنظيم عن المسؤولية الاعتبارية للحركات الإخوانية عن العمليات الإرهابية، التي يذهب ضحيتها الآلاف من الأبرياء، سيضعه على طريق سوي يقود إلى مصالحة الدين مع الواقع وبناء تجربة إسلامية متحررة من خطاب يسرق حاكمية الله في الخلق والوجود ويحوّلها إلى حاكمية بيد التيارات الإسلامية تجريها على هواها وفق ارتباطاتها الإقليمية والدولية.

لا يمكن أن تبقى بيانات التبرؤ من الإرهاب مجرد مخرج من الأزمات، بل لا بد أن تتحول إلى ثقافة مؤصلة شرعيا، وأن تتحول التصريحات والمقالات التي تكتب وتنشر في صحف أوروبية أو أميركية بغاية طمأنة الغرب إلى مدونة شاملة يتم الاشتغال عليها بعمق لتحدث القطيعة اللازمة مع المدونة الإخوانية باعتبارها الأرضية الفكرية التي تربى فيها التيار الجهادي ومر إلى تنفيذها بوسائل أكثر رعبا.

كاتب وصحفي من تونس

6