هل نجت تونس من ورطة مصر مع صندوق النقد

تونس وصندوق النقد بحاجة إلى الحوار والبدء بالإصلاحات مع تعديل الشروط والمطالب بشكل مرحلي إلى حين الوصول إلى تسوية واضحة.
الأحد 2024/10/27
وجود الدعم عنوان للاستقرار

نفذت مصر ما طلبه صندوق النقد الدولي من إصلاحات، وخاصة ما تعلق بتقليص دعم المواد الأساسية، وطبقت وصفته في منح الدعم لمستحقيه، أي تخصيص منح لفئات من المجتمع تبدو في نظر الحكومة هي الأكثر فقرا. لكن التحمّس لإصلاحات الصندوق وللقرض الذي منحه لمصر (8 مليارات دولار) توقف فجأة بعد أن ظهر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ليعترف بأن هذا المسار أفضى إلى نتائج عكسية، وأنه يهدد الاستقرار الاجتماعي لبلاده في ظل التطورات الإقليمية.

قد يكون السيسي هدف إلى التخويف من ورقة الوضع الإقليمي لتحصيل تنازلات من الصندوق أو إعفاءات أو زيادة في حجم القرض الموجه لبلاده، هذا وارد. لكن الحقيقة أن الزيادات المتتالية في المواد الأساسية وبتوقيت قريب ومتزامن، تنفيذا لتوصية صندوق النقد، تهدد معيشة المصريين، وقد تدفعهم إلى انتفاضة واسعة. صحيح أن الحكومة تخوّف الناس من مصير الفوضى الإقليمية إذا تظاهروا وسعوا للمس باستقرار النظام، والمصريون مسالمون وميالون إلى الاستقرار، لكن طاقة التحمل تظل محدودة، وهو ما أشار إليه السيسي بنفسه الأحد الماضي ضمن كلمته في افتتاح مؤتمر حول السكان والصحة والتنمية البشرية.

وتحدث الرئيس المصري عن برنامج بلاده للإصلاحات الاقتصادية مع صندوق النقد وأشار إلى ضرورة ألا تُسبّب المزيد من الألم لمعيشة المصريين، وأن حكومته قد تضطر إلى مراجعة اتفاقها مع الصندوق إذا أدى إلى ضغوط “لا يحتملها الرأي العام”.

◙ دول المنطقة تحتاج تقديم مقاربتها إلى مسؤولي الصندوق لبلوغ صيغة توافقية تمنع الانفجار الاجتماعي في بلدان هي أساسا تعاني عدة مشكلات

ما وصل إليه الرئيس المصري بالتجربة الملموسة كان الرئيس التونسي قيس سعيد يعارضه من البداية انطلاقا من قناعة ذاتية ترى أن الصندوق وسيلة للهيمنة، وأن برنامجه يمكن أن يجر الناس في تونس إلى استعادة انتفاضة الخبز في 1984.

استبق قيس سعيد مخاطر التململ الاجتماعي عندما لم يتجاوب مع شروط قرض صندوق النقد، خاصة أن البلاد تعيش حالة من فوضى الشعارات والمزايدات. كما أن تجربة الحكم بعد ثورة 2011 قادت البلاد إلى المزيد من التراجع الاقتصادي، وفتحت الباب أمام تراجع دور الدولة في التعامل مع الأسعار في مقابل سيطرة اللوبيات التي تحتكر قطاعات توريد وتوزيع المواد الغذائية والخضروات.

لا يمكن لأي سياسي في هذا الوضع أن يغامر بمصداقيته ويفتح بابا للحوار مع صندوق النقد يقوم على ثنائية رفع الدعم عن المواد الأساسية والتقشف، بما في ذلك الحد من الإنفاق على الخدمات التي تمس الناس بشكل مباشر في مجالات مثل الصحة والنقل والتعليم.

وعرضت تونس في السنوات الأخيرة صيغة تقوم على التعامل مع شروط صندوق النقد مع استثناء موضوع رفع الدعم، لحساسيته السياسية والاجتماعية، لكن رد الصندوق جاء قاطعا بأن على تونس أن “تلغي الدعم الذي يشكل عبئا ولا يوفر عدالة اجتماعية”، ولأجل هذا العنصر بالذات تعطل التفاوض.

لا يتعامل الصندوق مع الاعتراض التونسي، أو الشكوى المصرية من محاذير الاستمرار فيه، كما تنظر الحكومات، حتى أن كريستالينا جورجيفا مديرة الصندوق ردت على المطلب المصري ببرود قائلة “وضع مصر سيكون أفضل إذا أقدمت على تنفيذ الإصلاحات عاجلا وليس آجلا. ولن نتمكن من القيام بدورنا لصالح البلاد وشعبها إذا ادعينا أنه يمكن التخلي عن الإجراءات التي يتعين اتخاذها”.

لا يهتم الصندوق لاستقرار الدول والأنظمة. ما يهمه إصلاح الاقتصادات بتقليص هيمنة الدولة، وهي ترتبط عادة بالإنفاق الاستعراضي غير المدروس وتغمض الأعين عن شبكات الفساد. كما يريد فتح الباب أمام القطاع الخاص لإدارة القطاعات المنتجة بدلا من تركها لهوى الدولة وأجنداتها السياسية.

لكن بعد تجارب طويلة مع انتفاضات الخبز في بلدان عربية مختلفة منذ “تعليمات” الإصلاح الهيكلي وصولا إلى الوضع الراهن، سيكون على الصندوق أن يستمع إلى دول المنطقة كشريك، وليس كأستاذ مهمته أن يسدي التعليمات. وبدورها، تحتاج دول المنطقة أن تقدم مقاربتها الخاصة إلى مسؤولي الصندوق للوصول إلى صيغة توافقية تمنع الانفجار الاجتماعي في بلدان هي بالأساس تعاني من الكثير من المشكلات.

لماذا يتمسك الصندوق بجزئية رفع الدعم كشرط أولي مع أن هدفه هو إصلاح الاقتصادات وتخليصها من الإنفاق البيروقراطي والحد من تضخم القطاع العام غير المنتج. لمَ لا يسير في هذا المسار ويترك موضوع الدعم إلى حين إصلاح الاقتصاد وخلق الثروة وتحسين الخدمات وسد فجوة البطالة ثم يناقش رفع الدعم، الذي يفترض أن يكون نتيجة لنجاحات وليس عتبة أولى تحكم على الإصلاح إما بالفشل أو إظهاره وكأنه إكراه يعادي الناس؟ من سيقبل بهذا المسار؟ وحتى لو قبل، إلى متى سيتحمل؟

◙ صندوق النقد لا يهتم لاستقرار الدول والأنظمة. ما يهمه إصلاح الاقتصادات بتقليص هيمنة الدولة، وهي ترتبط عادة بالإنفاق الاستعراضي غير المدروس

ومن المهم أيضا أن تقدم كل دولة في المنطقة مقاربة جدية لإصلاح اقتصادها لا أن تكتفي بطلب قرض من الصندوق وإنفاقه في مجالات غير اقتصادية مثل شراء السلم الاجتماعي بتوزيع المساعدات النقدية على الفئات الفقيرة دون ربطها بإصلاح اقتصادي.

لا تزال بعض الدول تنظر إلى الاقتصاد على أنه مهمة الدولة، وهي التي تجمع الجباية باعتماد ضرائب مرتفعة على أصحاب المال والأعمال، ثم توزيعها على الناس في شكل مساعدات أو إنجاز مشاريع دون مقاربة اقتصادية واضحة.

لم يعد من الممكن أن تنهض الدولة وحدها بمهمة بناء الاقتصاد وتدويره، وهي تحتاج إلى شركاء في الداخل والخارج، والصندوق يمكن أن يفيدها ويساعدها على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة ومن بينها التقشف الحكومي في ما يتعلق بالإنفاق على الوزارات والإدارات أو التغطية على مؤسسات حكومية فاشلة ولا يراد التفويت فيها خوفا من الجدل السياسي والنقابي. لكن من دون أن يقترب من ملف الدعم سواء بالتقليص التدريجي أو الكلي.

على الصندوق أن يتفهم مآخذ تونس وتوجّسها من اللجوء إلى الاقتراض بشروط صعبة تهدد استقرارها، وهو ما يشير إليه الرئيس سعيد باستمرار من خلال استدعاء ثورة الخبز في يناير 1984 التي راح ضحيتها العشرات احتجاجا على “تحرير” سعر الخبز ورفع الدعم كليا، وهو قرار كان استجابة تونسية لمقاربة الإصلاح الهيكلي الذي طرحه الصندوق آنذاك، واضطر إلى سحبها بعد أن أدت إلى انتفاضات في دول أخرى في المنطقة.

هناك تصلّب غير مفهوم تجاه تونس، خاصة بعد الكلام الذي أطلقه ممثل الصندوق في الشرق الأوسط جهاد أزعور، الذي اشترط أن تقوم تونس بإلغاء الدعم بشكل كامل من أجل العودة إلى دراسة ملف القرض الذي تطالب به، والمقدر بـ1.9 مليار دولار على أربع دفعات.

هذا الشرط يبدو أقرب إلى موقف سياسي منه إلى أسلوب مؤسسة مالية دولية عرفت بالمرونة في التعاطي مع الأزمات الاقتصادية خلال عقود. ذلك أن الدعوة إلى إلغاء الدعم تعني آليا الاصطدام بموقف الرئيس سعيد الذي يرى في رفع الدعم أو إلغائه “خطا أحمر” يمس من مقاربته في الحكم وشعبيته.

وبالنتيجة، فإن تونس والصندوق في حاجة إلى الحوار والبدء بالإصلاحات مع تعديل الشروط والمطالب بشكل مرحلي إلى حين الوصول إلى تسوية واضحة. كلاهما يحتاج الآخر.

5