هل لنا القدرة على تحمّل الضغوط اليومية

التمشي المنطقي لتبرير القلق المزمن نتائجه الصحية كارثية تتجسد في أمراض العصر مثل السكري وضغط الدم والجلطات القلبية أو الدماغية التي أضحت من الأسباب الرئيسية للوفاة.
الأحد 2019/03/03
المرضى يزداد مرضهم ويتضخّم ألمهم وتتعكّر صحتهم

الملل والرتابة والإحساس بالضيق والتبرّم من الأحاسيس والمشاعر التي ترافق الإنسان في حياته الراهنة باستمرار، ونكاد نجزم بأن لا أحد لم يمسّه هذا الضرّ، فهذه الأحاسيس لا تختلف في جوهرها وتداعياتها بل تختلف في نسبها لدى الأشخاص بحسب الظروف العائلية والاجتماعية المحيطة.

موضوعيا التغيير الذي شهده نمط العيش اليومي انسحب على تركيبة الأسرة والمجتمع معا، فالتسارع المجنون لتحقيق ما أمكن من الأهداف المرسومة في مظهريها المادي والنفسي يصيب الإنسان بالتوتّر وإذا ما تواصل ذلك واستمر بشكل يومي فإنه يولّد ضغطا نفسيا لا يفتأ أن يتعاظم كل يوم ككرة الثلج التي كلما تدحرجت كلما ازداد حجمها.

كل الأسئلة التي تطرح من أجل الاستخبار عن الحالة النفسية أو المادية، تلقى تقريبا كلها نفس الإجابة المتبرّمة بعنوان واحد “القلق والتبرّم والرتابة”. لقد غابت الابتسامة الحقيقية المعبرة عن الفرح والسعادة والقناعة، وغاب التفاؤل والإقبال على الحياة بشراهة وعنفوان، وغاب الودّ والتودّد بين الناس، وتكلّست العلاقات حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، وتفشت ظواهر ما أتى الله بها من سلطان، ولعلنا نختزلها على كثرتها في ميزتي الأنانية وحبّ الذات، بكل ما تحيلان عليه من سوء وتفسّخ أخلاقي تغيب فيه كل المعاني القيمية والأخلاقية النبيلة التي تحدّد طبيعة العلاقة بين الذات والآخر.

في بعض الأحيان تتلبّسنا مشاعر شديدة الغرابة ومثل ذلك أننا نفقد الرغبة في فعل أي شيء، يصيبنا الخمول فنهمل الواجبات المنوطة بعهدتنا سواء كانت واجبات أسرية في علاقة بأفراد العائلة وانتظاراتهم المادية والنفسية كواجب الوالدين تجاه الأبناء أو العكس، أو واجبات اجتماعية في مجال الدراسة أو العمل. نفقد حتى لذّة الاستمتاع بالنكتة والطرفة والمزاح، وحتى وإن ضحكنا فلا يعدو ذلك كونه من قبيل المجاملة. الضحكات مصفرّة بلا طعم ولا رائحة، بكل بساطة لأنها لا تنبع من القلب، وليست تعبيرا صادقا عمّا يكتنف النفوس من طمأنينة وهدوء وقبول للحياة بقناعة والإقبال عليها بإيمان.

إنّ العزوف أضحى مفهوما ملازما لكل تحركاتنا، صغارا وكبارا، فالعزوف الدراسي أصبح يمثّل أمّ المشكلات في فضاءات التدريس المختلفة، فجنّدت الهياكل المعنية بمجال التعليم طاقاتها لتجاوز هذه الظاهرة التي عمّقت الهدر المدرسي والدفع بالآلاف من التلاميذ سنويا إلى الانقطاع عن الدراسة والتوجّه إلى الشارع بما يمثله من مخاوف حقيقية على حياة المراهقين، أما المربون داخل فصولهم فلا يكادون ينجزون درسا مكتملا لأن التلاميذ غير مبالين في أغلبهم وغير مستعدين لا نفسيا ولا ماديا للمشاركة في صنع الدرس. هذه الظاهرة أرخت بظلال كثيفة على الأجواء الأسرية فتوترت علاقات الآباء بأبنائهم المتمدرسين، وساد التشنج وتوسعت الهوة الفاصلة بين الأجيال.

أما الوجه الثاني للعزوف واللامبالاة فنجده في المؤسسات الإدارية التي تعمّقت فيها البيروقراطية، فليس هناك إلا التأجيل يعقبه التأجيل وبذلك تتقلص المردودية الإنتاجية لهذه المؤسسات، فحتى الهياكل الرقابية والتي من المفروض أنها تسهر على إنجاز الأعمال بالكمية والكيفية المطلوبتين وفي الوقت المحدد لكي لا تتعطل المصالح الفردية والجماعية، فقد أصابها بعض الوهن.

كل هذا الكمّ الهائل من المشاعر السلبية رافق الناس في عائلاتهم وفي مدارسهم وفي مراكز أعمالهم، ولكن اللافت في كل هذا أن عدوى التبرّم انتقلت إلى أمكنة من المفروض أن يتحلى العاملون فيها بابتسامة دائمة ومشرقة، وباستقبال راق، وبحفاوة كبيرة، وبصبر لا ينفد، وبعزيمة لا تكل.. إنها بكل بساطة المستشفيات ومراكز العلاج المختلفة، فإلى جانب الانتظار الطويل في طوابير ليست لها بداية ولا نهاية، فإن المرضى يزداد مرضهم ويتضخّم ألمهم وتتعكّر صحتهم حين لا يجدون الساهرين على العلاج، بدءا بحارس الباب ومرورا بمكتب الاستقبال، فالممرض ثم الطبيب، على أتمّ الاستعداد لاستقبالهم بوجوه مستبشرة وابتسامات عريضة تخفف من حدّة ألمهم وتعبهم.

المشكلة تكمن في أنّنا لا نجد الإجابات الشافية عن هذه الأسئلة المطروحة حول أسباب التجهّم والسوداوية اللذين يرافقان الإنسان في مسيرته الحياتية اليومية، أو أن المبررات في جوهرها مقنعة كالتسارع المجنون للحياة وتشعّب متطلباتها اليومية وصعوبة الحصول عليها أو تحقيقها، وهو ما يسلّط ضغوطا نفسية من الصعب التعايش معها بسلام.

هذا التمشي المنطقي لتبرير القلق المزمن نتائجه الصحية كارثية تتجسد في أمراض العصر مثل السكري وضغط الدم والجلطات القلبية أو الدماغية التي أضحت من الأسباب الرئيسية للوفاة. ولكن لا بد من وضع كل الأمور في إطارها لتجنب هذه الضغوط مهما كان حجمها عملا بالحديث النبوي “الكلمة الطيبة صدقة”.

21