هل الحياء لا يزال يمثل قطبا رئيسيا في منظومتنا التربوية

تعترضنا في حياتنا اليومية بعض السلوكيات التي لا نستسيغها -بقطع النظر عن وجاهة الموقف من عدمه- فنرجع ذلك إلى المنظومة التربوية-السلوكية العامة والتي تمثل المرجع الفكري والقيمي الأخلاقي كمقاييس ومعايير للتقويم والتقييم السلوكي العام، ونسمع في كل مرّة عبارة أضحت شائعة يرددها الجميع “ما عادش ثمة حشمة” (لم يعد هناك حياء).
الحياء مصطلح معياري أخلاقي يتغير باستمرار في تماه مطلق مع تطوّر النسق العام للحياة اليومية بكل مرجعياتها الفكرية والذهنية والدينية والقيمية والمادية، فإذا كان نمط ونسق الحياة متحوّلين غير ثابتين فإن كل المفاهيم الحافّة بذلك هي أيضا متحوّلة بالضرورة ومنها مفهوم الحياء.
إن الحياء والحشمة مصطلحان أساسيان في المنظومة التي تتأسس عليها التربية الأسرية، بل لعلّهما يتصدّران قائمة المفاهيم القيمية جميعها، لما لهما من دور في عقد علاقات اجتماعية مبنية على الاحترام من جهة، ثمّ توطيد العلاقات القائمة بين الأفراد سواء على مستوى الأسرة أو المدرسة أو فضاءات العمل أو الترفيه وغيرها.
ولكنّ الأسس التربوية بالمقاييس التقليدية التي تضع مفهوم الحياء في خانة مغلقة من المحرّمات والمحظورات، ألا يمكن أن تحيد بالتربية الأسرية عن مهامها وأهدافها الأساسية المتجسّدة في تنشئة أطفال متشبعين بمفاهيم المواطنة الفاعلة وفق حدود المرجعيات الدينية والأخلاقية والاجتماعية التي تتسم بالاعتدال والتكامل؟ ألا يمكن أيضا أن تشكل عوائق نفسية وذهنية ومادية أيضا تعطّل التطور الطبيعي لشخصية الطفل على جميع المستويات، وبالتالي تسلبه حرية الرأي وحرية الفعل وحرية إبداء الموقف؟ ألا يمكن أن تحدّ في الطفل مواصفات القيادة في المستقبل وبذلك يفقد موقعه الأصلي والطبيعي في قيادة مجتمعه نحو التطوّر والتقدّم؟
هذه الأسئلة وغيرها تجعل الموضوع يطرح بطريقة جدلية لا بد من أن يكون النقاش فيها هادئا ومعمّقا نظرا لأهمية الموضوع في ذاته أو للنتائج التي قد تفضي إليها هذه النقاشات في علاقة مباشرة بأهمية الحياء في المنظومة الأخلاقية التربوية وما لذلك من علاقات وطيدة بالثوابت والأصول الحضارية، ثمّ -وهو أمر شديد الأهمية أيضا- الدفع الإيجابي لتكوين شخصية سوية سليمة خالية من العقد النفسية، قادرة على الفعل الإيجابي في إطار نظرية المجموعة تفاعلا واختلافا وتماهيا أو انصهارا.
نعلّم أطفالنا أن يتمتّعوا بسمة الحياء والحشمة في كل تعاملاتهم داخل العائلة أو خارجها، ونقرن ذلك دائما بالاحترام، ولكننا قد نفشل في تحديد حدود هذا الحياء وهذا الاحترام.
الحياء أن ندعوهم إلى حسن الإنصات دون مقاطعة، وتنفيذ ما يطلب منهم من أعمال دون نقاش، واعتبار كل الخطابات الموجّهة لهم أوامر، وتبجيل كبير السنّ في كل المواقف، والتعفّف عن التلفّظ بالكلام البذيء والخادش للحياء، واحترام المسنّ والمرأة.. في ما ذكرنا أمور كثيرة جيّدة مثل أن نرسّخ لدى ناشئتنا أن يتعلّموا كيف يحفظون المقامات والمواقع الاجتماعية، فالمسنّ والمرأة يجب أن يحظيا بكل احترام وتبجيل وذلك ما تحضّ عليه التشريعات الوضعية والدينية لدى كل الشعوب والأمم بقطع النظر عن الاختلافات البيئية والاجتماعية والحضارية، والتعفّف عن إيذاء مسامع الناس بفاحش الكلام يوطّد العلاقات الاجتماعية العابرة في وسائل النقل أو فضاءات التسوّق أو الترفيه، واحترام المربي في كل المراحل التعليمية ينمي المدارك العقلية والذهنية ويجعل عملية التعليم سلسة يسيرة ومثمرة في صالح الأفراد والمجتمعات عموما.
أمّا ما يعاب بشدّة في هذه المنظومة السائدة الطريقة التي تعتمد التكليف بأسلوب إنشائي طلبي محوره الإجبار والإلزام “افعل كذا.. ولا تفعل كذا”، وثانيا مصادرة آراء الأطفال ومواقفهم، من ذلك مثلا التعبير عن التعب لعدم القدرة الجسدية على إنجاز فعل طلب منهم يعتبر وقاحة وقلة حياء، ومناقشة تفاصيل وحيثيات محتوى طلب ما تعتبر قلة حشمة، وقس على ذلك: الغناء والرقص والحوار بصوت عال ومناقشة العدد في المدرسة والتعبير عن موقف يخص موضوعا أسريا والحضور مع الضيوف والمشاركة في الحوار.. كلها مواقف وأفعال “مشينة” غاب فيها الحياء والحشمة.
المعضلة إذن تكمن في كيفية المواءمة الصحيحة بين الأبعاد التربوية والأخلاقية لمفهوم “الحياء” و”قلة الحياء” وفق النسق التربوي العام في سيرورته المتطوّرة دائما وغير الخاضعة للأطر المتكلّسة الرافضة لأي تغيير، وبين ما يتطلبه تكوين شخصية الطفل وبناؤها وفق أسس علمية تستند إلى علمي النفس والاجتماع خاصة ووفق المتطلبات التقنية للعصر.
بكل بساطة، علينا أن نتعلّم قبل أن نربي ونلزم أطفالنا بقوالب جاهزة نرفض نقاشها شكلا ومضمونا.