ما سبب تغيّر الممارسات الاجتماعية في رمضان

ما أكثر المفارقات وما أشدها غرابة تلك التي تطفو على السطح بمناسبة شهر رمضان، حيث تتنازع الإنسان رغبتان هما متناقضتان أصلا؛ أولاهما تتعلق بالوازع الديني والذي يتعمق معناه تماهيا مع قداسة شهر رمضان، وثانيتهما تحفيز الشهوات نتيجة طول ساعات الصيام ومحاولة تعويض الحرمان الذي يشعر به الصائم طيلة اليوم.
من هذا المنطلق تتكثف السلوكيات الإيجابية والسلبية في آن معلنة عن الصراع الذي يعيشه الناس في هذا الشهر بين محاولة تجذير إيمانهم بالعبادة والأعمال الصالحة وبين شهوات النفس الكثيرة.
فعلى المستوى الذاتي تشهد سلوكيات الفرد تغيرا جذريا، فإلى جانب تضخم الجانب الإيماني والإنساني لدى الصائم فيصبح أكثر مواظبة على الصلاة والصدقة وغضّ البصر والذكر وقراءة القرآن وعيادة المرضى وزيارة الأقارب، فإنه يصبح أيضا سريع الغضب وأكثر عدوانية، وتتغذى لديه مشاعر اللهفة والجشع.. خاصة عند الباعة الذين لا يهمهم في الأمر سوى المزيد من الربح.
فالبعض من الناس يدّعي التعفف عن فاحش الكلام وعند أول خلاف نسمع ما تكره آذاننا سماعه، بالأمس القريب وقبل أذان المغرب بقليل وكنت أقود سيارتي بأحد شوارع العاصمة اضطررت إلى الوقوف في قلب الطريق بكل بساطة لأن أحدهم وكان يقود دراجة نارية تسبب في تعطيل حركة المرور ليتحف سائق شاحنة صغيرة ويتحفنا معه بكلام ناب وحركات لا أخلاقية ووعيد.. والسبب فقط لأن الشاحنة ضايقته في الطريق.
مثل هذه السلوكيات تتكرر باستمرار في فضاءات التسوق العام وفي وسائل النقل العمومي وفي المؤسسات الخدمية وفي الشوارع.. بل نجد بعضها وبأقل حدة في المساجد في زحمة الدخول أو الخروج منها، ليست عادات خاصة بشهر رمضان ولكنها تتعمّق ممارستها فيه في إعلان صارخ عن تدهور المنظومة الأخلاقية من ناحية، والهشاشة النفسية التي أصابت البعض نتيجة وطأة الحياة اليومية والضغط المادي المسلط على الأشخاص حيث يتضاعف الإنفاق في شهر الصيام.
العائلات أيضا لا تخلو من بعض الممارسات السيئة قولا وفعلا في شهر رمضان، ولعل أبرزها إثقال كاهل الأم والأخت والمرأة عموما بالمزيد من الأشغال المنزلية من طبخ وتنظيف وترتيب، فالكل يريد لرغباته أن تتحقق في الراحة وفي الأكل دون المساهمة في ذلك وترك الأمر للأم المسكينة والزوجة المرهقة لتتسوّق وتعاني مرارة ذلك وتعايش ما كنا ذكرناه من مكاره الطريق والفضاءات العامة، ثم تتولى عملية الطبخ لساعات طويلة متحملة الحرارة والوقوف وحتى الضغط النفسي عند البرمجة لما ستعدّه من أطباق، ثم تعدّ المائدة وتجلس آخر من يجلس حولها وتنهض الأولى قبل الجميع لجمع الأواني وحملها إلى المطبخ ثم غسلها قبل أن تفكر في السحور.. أليس رمضان شهر الرحمة والتعاون؟
وتتعمّق المشاجرات لأتفه الأسباب وتعلو الأصوات وقد تتشابك الأيدي ناهيك عن فاحش الكلام، يحدث بين الأزواج وبين الإخوة تحت ذريعة الصيام ومقولة رمضان الشهيرة “فلان مرمضن” وكأن الصيام يفقد أبعاده الروحية جميعها ويقع حصره في شهوات النفس المادية من مأكل ومشرب.
وعلى مستوى العمل يدبّ في النفوس الخمول وتقل الإنتاجية وتنسدّ الآفاق وتتضرر مصالح الناس ويختلّ التوازن، فمن ناحية تتصاعد وتيرة الاستهلاك على جميع المستويات، ومن ناحية ثانية تقلّ الإنتاجية والمردودية، هذا إضافة إلى التوتر الذي يسود العلاقات الاجتماعية في فضاءات العمل.
لسائل أن يسأل: لماذا يقع هذا التحول في السلوكيات العامة للناس؟ ولماذا يعيشون هذا التناقض الصارخ بين ما هو ديني مقدس وبين ما هو اجتماعي ونفسي؟
الإجابة يمكن أن تستند إلى مرجعيتين، أولاهما دينية طبعا وهو ما يفسر أن الأشخاص يتزايد منسوب إيمانهم وممارستهم لعباداتهم في شهر رمضان فقط وهذا وحده كاف ليعلن عدم استقرار نظرتهم للتدين والتعبد وهو شكل من أشكال الانتقائية التي تفرز لا محالة المفارقات.
أما ثانيتهما فهي نفسية واجتماعية، حيث يختل التوازن الأخلاقي والسلوكي على مستوى الفعل والقول لاعتقاد الناس بأن الصيام فعل مضن ولا طاقة لهم بتحمله ولذلك يجيزون لأنفسهم أن يقولوا أو يفعلوا ما يشاؤون والأدهى والأمرّ أنهم يعتقدون بأن تبرير ما يقومون به وتجاوزه من طرف الآخرين من تحصيل الحاصل.
اعتبروا أيام رمضان كغيرها وخففوا من توتركم ومن لهفتكم وتمسكوا بنبل الأخلاق قولا وفعلا وممارسة وسيكون الصيام أيسر مما تعتقدون، وازنوا فقط، دون مفارقات، بين الديني دون مغالاة وبين النفسي والاجتماعي دون توتر.