المرأة في مملكتها.. نشوة ومعاناة

النمط العائلي المتحوّل نزع من المرأة البعض من مملكتها، فأصبح البيت مسؤولية جماعية وليست حكرا على المرأة خاصة في ظل خروجها إلى العمل مع الرجل، وكان لزاما على كل أفراد العائلة أن يشاركوا في إنجاز الأشغال اليومية.
الأحد 2019/05/26
مسؤولية داخل البيت وخارجه

علاقة المرأة ببيتها علاقة مخصوصة جدا حتى أنها تعتبره مملكتها الخاصة بصيغتي الانتماء والملكية، حيث إنها تجتهد بكل ما أوتيت من قوة لترتب هذه المملكة وفق فلسفة معيّنة تستند إلى مرجعيات فكرية وعقائدية واجتماعية تختلف من امرأة إلى أخرى. ولعلّ المطبخ يمثل الركن الأفضل والأهمّ والذي يمكّن المرأة من الكشف عن مهارات إبداعها التي تسعى في أغلب الأحيان إلى التباهي بها على اعتبارها سمة تميّز وتفرّد.

هذه الملكة تتطور وتتعاظم في شهر رمضان على خلاف العادة وذلك لما يضفيه الصيام من شهوات تترجم طعاما شهيا على موائد الإفطار. الموضوع مستهلك من جانبه التقني، لأن برامج الطبخ تؤثث المساحة الأكبر في جميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وحتى المكتوبة، بل إن الوسائط الاجتماعية ومنصات التواصل شاركت أيضا وبكثافة في صنع “الشهوة” وتصعيدها إلى مداها الأقصى، وذلك بتنويع الأطباق المعروضة وابتكار أخرى أو استنساخها عن بلدان أخرى.

فعلاقة المرأة ببيتها وبالمطبخ تحديدا لا تكتمل أهميتها بالجانب التقني في التفنن في إعداد الطعام وتقديمه، بل تتعلق بنفسية المرأة التي عادة ما تعاني مفارقة تجمع المتناقضين؛ الشعور بالثقة والسعادة وبعض الغرور الذي يصل إلى حدّ النرجسية أحيانا نتيجة تضخّم مشاعر القيادة لديها في هذا المجال بالذات، ونتيجة إحساسها أيضا بأنها المتحكّمة في الوضع والجميع من حولها ينتظرون إبداعاتها اليومية بشغف كبير، وكل هذا يصبغ على نفسها راحة كبيرة تتعلّق بموقعها الريادي في الأسرة والذي قد تفتقده خارج إطار شهر رمضان.

أما النقيض الثاني فيتمثل في إحساس المرأة بالإرهاق والتعب الشديدين نظرا لكثرة المشاغل اليومية، حيث تبدأ المعاناة في جانبها الذهني من خلال البحث عن بلورة الأفكار التي ستتأسس عليها أطباق اليوم والتي ستؤثث مائدة الإفطار، وبعض هذه الأفكار شخصي وبعضها يعدّ نزولا عند رغبة البعض من أفراد الأسرة والبعض الآخر مستنسخ من برامج الطبخ التي تعرض يوميا وفي أوقات مختلفة على مختلف شاشات الفضائيات، ويقع تجميع التوليفة بمراعاة ما توفّر من مواد ولوازم. ثمّ يحين وقت الإنجاز الفعلي فتذهب للتسوّق وتتنقل بين الباعة تتخير بضاعتها وتناقش الأسعار وتحتمل الازدحام والحرارة وتعاني إجهاد الصوم واشتداد وطأته في هذا التوقيت بالذات، وهذه المرحلة على ما فيها من مشقة هي أهم مراحل الإنجاز لأن ما ستقتنيه من مواد مختلفة سيتشكل منه تصنيفها أو إبداعها الذي تتباهى به.

تعود المرأة شبه منهكة وتؤم “مملكتها” الخاصة وتبدأ “الحرب” الحقيقية، إنها لوحة على قدر ما فيها من تنافر ونشاز متأتيين من ملامح الفوضى التي تعم المطبخ، أوان متناثرة هنا وهناك، تتنقل يداها بينها بخفة ورشاقة، فيقرع بعضها البعض وتذكّر قرقعتها بتلاحم السيوف بالدروع، وتعبق رائحة الأطعمة على تنوعها واختلافها، تدعو الصائمين وتحفزهم على مباركة ما تقوم به ربّة البيت.

أما المرحلة الأخيرة فتتمثل في تصفيف الأطباق على طاولة الأكل وتوزيع الطعام في لوحة أخرى عليها لمسة فنية من يدي المرأة ما يجعل المائدة تشكيلا من الألوان والأشكال والأحجام، وتكتمل اللوحة بتفاصيلها اليومية وتتجدد كل يوم بلون جديد وشكل جديد وإبداع جديد وفرحة جديدة.

المميّز في العملية كلها هو هذا المزج بين نمطين من الأحاسيس متناقضين تماما، إحساس بالنشوة بإنجاز أمر -رغم رتابته وتعاوده- يجعل المرأة قادرة على التأثير في محيطها الأسري الضيق ويكسبها ما تحصّن به علاقاتها بأفراد عائلتها ويجعلها صاحبة فضل في إطار الصراع الأزلي بين الأنثى والذكر، وكأنها باحتوائها لمملكتها الصغيرة تثبت وجودها.

وإحساس ثان بالإرهاق والتعب يعمق في ذاتها الشعور بأنها ضحية الأسرة والمجتمع وتقارن فعلها بفعل من حولها فتحس بنوع من الاضطهاد الممارس عليها إكراها.

لكي لا نبالغ في الأمر كثيرا ورغم رونق المشهد اليومي المتكرر بما فيه من إيجابيات وسلبيات، فإن النمط العائلي المتحوّل دائما نزع من المرأة البعض من مملكتها، فأصبح البيت بما يتطلبه من أشغال يومية مرهقة مسؤولية جماعية وليست حكرا على المرأة خاصة في ظل خروجها إلى العمل جنبا إلى جنب مع الرجل، وكان لزاما على كل أفراد العائلة أن يشاركوا في إنجاز الأشغال اليومية كل من موقعه وانطلاقا مما يستطيع فعله، وبذلك تنعم المرأة بمملكتها بمشاركة من حولها، كما تتكثّف المشاعر بنكهة رمضان.

21