هل تلتقط المعارضة التونسية رسائل الانتخابات

قبل أسبوع من انتخابات السادس من أكتوبر، كان الشارع السياسي يغلي، ويوحي بأن المعارضة قوية سواء تلك التي دعت إلى المشاركة لدعم المرشح المستقل العياشي زمّال بهدف إرباك قيس سعيد والتنغيص عليه، أو تلك التي دعت إلى المقاطعة واعتبرت أن النتيجة محسومة، وأن قيس سعيد يوظف كل المعطيات لصالحه، وأن تكثيف المشاركة سيرفع من نسبة المشاركة ويضفي شرعية على الانتخابات وعلى قيس سعيد، في وقت تتفق فيه المعارضة على أنه فقد شعبيته.
بعد أسبوع من الانتخابات، يلفّ الصمت مواقف المعارضة إلا من بيانات يتيمة أو مواقف شخصية من هنا أو هناك تعلق على نتائج الانتخابات.
ولا شك أن الانتقال من النقيض إلى النقيض هو سمة من سمات المعارضة التونسية. لكن الأمر هذه المرة مختلف، وهناك إقرار بأن قيس سعيد لم يكن لأحد أيا كان حتى لو توحدت وراءه المعارضة أن يهزمه. وهذا مؤشر على أن المعارضة تراجعت بشكل كبير وفقدت وزنها في الشارع يستوي في ذلك الإسلاميون وأحزاب الوسط ومجموعات اليسار والقوميون. طبعا الأمر مختلف بالنسبة إلى منظومة ما قبل 2011 ومرشحيها.
ورغم أن جزءا من المعارضة قد حكم الدولة وصار له أنصار ومستفيدون منه في مختلف المؤسسات، لكن ذلك لم يظهر له أي تأثير، على النتائج، عكس ما كان يحصل في ما قبل 2011، وهذا يوضح أن خطاب المعارضة لم يكن قادرا على بناء شبكة علاقات واستقطاب الشارع، وأن الناس الذين تعودوا بنظام رئاسي يدور حول زعيم وفاعل أساسي لم يشعروا بأن النظام البرلماني، الذي يؤسس لتعدد الرؤوس وتنافرها وتقاطع الصلاحيات، يصلح بهم.
◙ الاعتراف بالحقيقة سيتسع مع الوقت من أجل القبول بحقيقة أن الناس قطعوا مع الماضي، والمعارضة أحد مشكلات هذا الماضي المتسم بالفوضى
من المهم الإشارة إلى أن الشارع التونسي في معظمه انتخب آليا ضد منظومة الأحزاب بما في ذلك الأحزاب التي تصنف نفسها بـ”حزام رئاسي” أو “أحزاب الرئيس”، وفي أذهان الناس صورة الصراعات في برلمان 2014، وخاصة برلمان 2019. ولم تكن نتيجة أمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي، التي لم تبلع اثنين في المئة، سوى عينة من الموقف الشعبي الغاضب على الأحزاب، وسبق أن ظهرت مؤشرات ذلك في انتخابات البرلمان الحالي والمجالس المحلية حيث كانت نسبة المشاركة في مستويات دنيا (11 في المئة).
لكن هل التقطت المعارضة هذه الحقيقة أم مازالت تلقي بالمسؤولية على قيس سعيد وتتهمه بتوجيه العملية الانتخابية لصالحه؟ هناك بداية وعي باللحظة لدى بعض وجوه المعارضة، الذين كتبوا كأفراد وليس كأحزاب بأن النتائج الانتخابية تعكس التوازنات على الأرض، وأن الشعب لا يريد العودة إلى الديمقراطية بصورتها السابقة مفضلا اختيار رئيس بصلاحيات كاملة على برلمان تعددي يحترف العرقلة.
قد لا تكون الأسماء التي اعترفت باللحظة مهمة، لكنها تعكس توجها للاعتراف بالحقيقة سيتسع مع الوقت ليس للاعتراف بأن قيس سعيد كان أقوى أو أنه الأكثر شعبية، ولكن من أجل القبول بحقيقة أن الناس قطعوا مع الماضي، والمعارضة أحد مشكلات هذا الماضي.
قد لا يكون الاعتراف بالأزمة مهمّا للأحزاب المعارضة الصغيرة، التي دأبت طوال تاريخها على كتابة بيانات الرفض، وهي قابلة في نفس الوقت أن توصف بالصفر فاصل، وأبرز من يمثل هذا التوجه هم ممثلو الأحزاب التي أصدرت البيان الخماسي الداعي إلى مقاطعة الانتخابات. لكنه مهم للأحزاب التاريخية التي توصف ذات الثقل، وأساسا حركة النهضة، والأحزاب والشخصيات الممثلة لمنظومة ما قبل 2011 ثم التيار القومي الناصري.
والسؤال: كيف يمكن لحركة النهضة التقاط رسالة الانتخابات بالرغم من أنها لم تدع إلى المقاطعة ولا المشاركة، وتركت من دون توصية واضحة الحرية لأنصارها لينتخبوا أو يقاطعوا. يمكن أن تكون النهضة هي أكثر طرف مطلوب منه أن يلتقط بنفسه ولنفسه في وضعها الحالي الذي ينبئ بما يشبه حالة البيات الشتوى، أي حالة من الصمت، وهذا مفهوم بسبب توقيف أبرز قادتها التاريخيين.
وصمتها لا بفهم منه أنها انتهت كما يبشر بذلك البعض، لكنه مؤشر على أنها تعيش أزمة عميقة قد تتأجل بفعل وضع الأزمة وخطاب واجب وحدة الصف أمام الأزمات كما يحصل مع الحركة دائما. ففي الأزمات، تنكمش الحركة على نفسها، وتقل الانتقادات والنقاشات، وتتوقف الاستقالات والانشقاقات على عكس ما حصل في فترة الرخاء الأمني.
لكن المشكل الأكبر، أن الحركة مرتبطة بالأشخاص وليس لها أدبيات واضحة يمكن أن تكون عنصر توحيد وتجميع أو يمكن من خلالها استقطاب وجوه جديدة خاصة من الشباب. النهضة أقرب إلى حركة شيوخ (عمريا)، وفوتت على نفسها فرصة تجديد مؤسساتها بعقد مؤتمرها المؤجل، الذي كان يمكن أن يخرج طاقات شبابية تؤسس لمرحلة ما بعد راشد الغنوشي والفريق الذي يرافقه لعقود.
والانتخابات توفر فرصة لحركة النهضة لمراجعة ذاتها وتعديل إستراتيجيتها القائمة على تضخيم الجانب السياسي واستعجال الوصول إلى السلطة عن طريق المغامرة مثلما حصل في 1989 وما بعد الثورة بالرغم من أن الحركة بلا برنامج ولا مؤسسات وفي غياب المراجعات التي يفترض أن تتم مع نهاية كل مرحلة.
◙ بعد أسبوع من الانتخابات، يلفّ الصمت مواقف المعارضة إلا من بيانات يتيمة أو مواقف شخصية من هنا أو هناك تعلق على نتائج الانتخابات
بعد ثورة 2011 أعادت النهضة تشكيل ذاتها من دون حل الخلافات التي كانت تعصف بها خاصة في الخارج بسبب غياب تقييم لأزمة 1991 والمواجهة غير المتكافئة مع الأجهزة الصلبة للدولة. وإلى الآن لا مؤشر على أن الحركة يمكن أن تحدث مراجعة سياسية لأدائها منذ أربعين عاما وخاصة في العشرية التي كانت فيها طرفا في الحكم.
وإذا كانت التعقيدات السياسية والتاريخية والهيكلة تعيق النهضة عن التقاط سريع لرسائل الانتخابات بشأن التعديل، فإن التيار الدستوري بمختلف وجوهه لا يبدو هو أيضا على استعداد للتفاعل بشكل مرن مع التغيير. وتعكس هذا التوجه تصريحات منذر الزنايدي قبل الانتخابات وما بعدها، التي تدفع نحو التصعيد، والنظر إلى المشهد السياسي على أنه عبثي، وأن الطبقة السياسية لمرحلة ما بعد 2011 قوس سلبي يطغى عليه الارتجال وضعف العلاقة بإدارة الدولة، وضرورة أن يعود حكم الدولة للتكنوقراط الذين حكموا من قبل ولديهم خبرات وعلاقات وقدرة على استنباط الحلول.
وتظهر الثقة المبالغة فيها في عودة المنظومة القديمة للحكم كونها الأقدر والأكثر فاعلية في خطابات عبير موسي، زعيمة الحزب الدستوري الحر، المسجونة حاليا. مبالغات القديم تخفي مصادرة امتلاك التجربة والنجاح، مع أن تلك المرحلة لم تخل من أخطاء كبيرة كان دورها محددا في إسقاط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ولعل أكثرها وضوحا هو موضوع الفساد والمحسوبية واستشراء الجهويات في خطط الدولة مع أسس لحالة انعدام التوازن.
أما التيار الثالث، الذي يفترض أنه تلقى سريعا رسائل الانتخابات، بعد أن شارك فيها وحصل على نتيجة ضعيفة ستؤثر بالتأكيد على استقراره وعلى مستقبله السياسي، فسيحتاج إلى مراجعة سريعة قد يكون من بين عناوينها القطع مع استعجال الدخول إلى السلطة والاستظلال في ظل الرئيس لتحصيل مكاسب حزبية آنية، في تيار تربي أنصاره على فكرة القطيعة مع المنظومة السياسية والوقوف في موقف من ينتقد الجميع ويعطي الدروس، فكيف يضع نفسه في موقع من تتم المزايدة عليه.