هل تعافى الشعر مع قصيدة النثر؟

القاهرة – الشعر روح حرة لها أشكال لا تعرف شرطا محددا لأطرها، ولا قانونا يضبط مساراتها. ومن تجليات تلك الروح الحرة قصيدة النثر، بوصفها تركيبة شعرية تفرض وجودها في عالم الشعرية الراهنة. هذه هي القناعة التي انطلقت منها الناقدة والأكاديمية العراقية نادية هناوي في كتابها “أميرة الرهان دراسات نقدية وجمالية في قصيدة النثر الراهنة في العراق”.
وترى الناقدة في كتابها، الصادر عن دار غيداء للتوزيع والنشر بالأردن، أن قصيدة النثر هي “قصيدة المستقبل التي لن تعتريها كهولة أو شيخوخة، ولن تعرف خضوعا لمواضعات أو توجهات، وهذا ما سيضمن للشعر المعاصر الديمومة، وذلك لأنها جاءت ضد القالب أصلا فهي قصيدة اللا قالب فإذا أنجزت قالبها فذلك يعني نهاية وجودها وإعلان موتها”.
إذا كانت قصيدة النثر كذلك فلماذا تواجه إلى اليوم انتقادات واتهامات تنتقص من شاعريتها يطلقها نقاد وشعراء كبار؟ هنا ترد هناوي الأزمة إلى النقد الذي دار حول هذه القصيدة حتى غدا وجها بلا ملامح يحاول أن يخفي هذه اللا ملامح باستعارة أقنعة لم تفصل أساسا على مقاسه، بل هي تزيد من اختفائه وراءها، كذلك لا تعفي شعراء تلك القصيدة من المسؤولية، فهناك من ينتج قصيدة النثر الناظرة من ثقب الباب، وهي القصيدة التي تنظر إلى الأشياء من زاوية واحدة، فلا تتضح بغيتها بسبب الإبهام الذي يكتنفها ما بين اليقظة والحلم. ولا يتضح مرادها بسبب غلالة الترميز التي تحيط بها، وعادة ما يوظف فعل النظر فيها لا بقصد الإبصار؛ بل التبصر.
وبسبب هذه النظرة الضيقة، فإن حدود هذه القصيدة قد لا تغادر حيز الغرفة بما يجعل عملية كتابتها محددة بحيز تعتاده بشكل مكرر، مسجلة يوميات الشاعر كلحظات يقظته ونومه أو طبيعة حركاته وسكناته، ملتقطة صمته وسكونه. وهي لا تخلو من واقعية لكنها واقعية موهومة أو واهمة بسبب سوء الفهم الناجم عن اللا اكتمال في الرؤية التي تبصر الأشياء من جانب واحد. وهي في الأغلب قصيدة نسوية، والتوصيف بالنسوية ليس رهنا بالكاتب كمذكر أو مؤنث إنما هو رهن بالقصيدة نفسها وما يحويه نصها من دلالات تتموضع في سياقات أنثوية.
وفي مقابل تلك القصيدة هناك “قصيدة النثر المكانية”، حيث تكون القصيدة بمثابة عين الكاميرا التي تلتقط بنظرة ثلاثية الأبعاد تفاصيل الأشياء المشاهدة في ثباتها وحركتها بنظرة خارجية محايدة. وتدور العين حول الشيء المعبر عنه لتراه من وجوه عدة وتعيد تشكيله زمانيا، ولكون هذه القصيدة كتابة طباعية، فإن هذا ما يجعل فضاءها ملائما للنظر والتقدير البصري تماما كاللوحة التي فيها الكلمات، هي الألوان والأفعال، هي الحركات والأسماء، هي الصفات. وربما كان لفقدان ثقة الشاعر بالزمان أثره في الرهان على المكان كنظرة ميتافيزيقية إشراقية لا زمانية.
ولأن قصيدة النثر قصيدة دلالية تراهن على المعنى لا الصوت، وعلى المحتوى لا القالب، لذلك تنتاب شاعرها نزعة سردية، فبالسرد يجوب الشاعر آفاق التخييل برحابة، مانحا الأحلام مديات تصويرية بعيدة، وهذا ما لا تتيحه إلزامية الوزن والقافية في القصيدتين العمودية والتفعيلية، فضلا عما يحققه السرد من إمكانيات في التعبير تتعدى المباشرة والسطحية، وتجعل الشاعر واعيا لموقعه فلا يتردد من الإشارة إلى نفسه بالاسم أو بالصفات .
جاء الفصل الأول من الكتاب بمثابة مهاد نظري، تلاه فصلان حاولت فيهما الكتابة رصد التوجهات الجمالية لقصيدة النثر العراقية، وأولها اتخاذ تلك القصيدة من أنا الشاعر موضوعا شعريا، وقد جاءت هذه الأنا منشطرة ومتعددة، بين ذات هي أنا الشاعر نفسه وصورته وضميره وصوته المتكلم، وبين أنا هي الآخر وهويته التي قد تكون مرآة الذات المنعكسة أو قرينها المرافق أو ندها المضاد أو غريمها اللدود. وبالرغم من ذلك فقد تتلبس الأنا صوت الآخر، مفردا أو جمعا، متنكرة لذاتيتها ومتفادية البوح بصوتها الذي تمنحه للآخر لتكون مرآته ولسان حاله.
ومن التوجهات الجديدة في قصيدة النثر الراهنة تغليب اليومي على ما هو مؤسطر وغرائبي والانشغال عنه بما هو متداول ومعيش، سواء أكان هذا اليومي مؤدلجا أو مسيسا، مستورا أو معلنا، وهنا تؤدي الذاكرة دورا مهما في استعادة تفاصل اليومي المعيش وتدويم استرجاعه حيا نابضا في المخيلة باستمرار. كذلك ترصد حضور الصمت فاعلا جماليا يستبدل الصوت، ويحل محله بوصفه مهيمنا دالا وليس بوصفه طرفا في ثنائية صمت-صوت، التي لها حضورها في بنية الشعر العمودي والتفعيلي.
وفي الختام ترى نادية هناوي أن كابوسية قصيدة النثر العراقية الراهنة تكمن في حلميتها، وفوضويتها في ثباتها، لا لشيء إلا لكي تؤكد وجودها وهويتها أمام كل العراقيل التي ستظل ترافقها مهما طال الأمد عليها، ولعل هذا ما صيّر الأنا في قصيدة النثر كئيبة كآبة دائمة ومفردة فردانية مطبقة.
وكذلك تذهب إلى أن واحدة من جماليات قصيدة النثر أنها تحتاج قارئا لا متلقيا، كونها لا تكاشف صوتا ولا تفصح دلالة؛ بل تراهن على الذي يقرأ سطورها لتتحداه وتبعث فيه التحفيز، مستفزة مخزوناته ومستنفرة حواسه وموقظة ذخائر قراءاته كي يرصد المغيب والمتداري، وهذه المراهنة على القارئ هي التي تجعلنا نسم قصيدة النثر اليوم، بأنها قصيدة جديدة ما بعد حداثية لا يتم تلقّفها كتلقّف قصيدة العمود أو التفعيلة، وهي حصيلة تأمل وتأنّ.