هل تخلت بغداد عن ورقة الرواتب ضد إقليم كردستان

لم يترك حزب الدعوة والأحزاب الشيعية التي خرجت من عباءته أو تأثرت به سياسيًا أيّ فرصة للعراقيين لالتقاط أنفاسهم وترتيب بيتهم الداخلي وإعادة صياغته من جديد بعد الزلزال المدمر الذي ضرب بلدهم عقب الغزو الأميركي عام 2003 وإسقاط حكم الرئيس صدام حسين الذي جثم على صدورهم لعقود.
وقد سعى هذا الحزب وتوابعه من الأحزاب الشيعية منذ 2006 لتدمير العراق كدولة ومجتمع وإبقائه في دائرة التخلف والفقر والبطالة وإفشال أيّ خطوة باتجاه الإصلاح والنهضة وفق اتجاهين اثنين.
الاتجاه الأول، السعي لتكريس الفرقة والتناحر بين القوميات والمكونات العرقية الأساسية، وقد حقق نجاحًا منقطع النظير للوصول إلى هدفه النهائي وهو الهيمنة على العراق وإعادة القبضة الحديدية إلى الحكم.
الصورة القاتمة توضّح نفسها؛ الكرد في صراع شديد مع بعضهم البعض وقد يتحول صراعهم إلى قتال ضار بين الحزبين الرئيسيين؛ الديمقراطي والاتحاد الوطني الكردستانيين اللذين يحكمان إقليم كردستان إذا لم تُعالج الأزمة الحالية بهدوء وحكمة، والسنة العرب ليسوا أحسن حالا من الكرد فهم منقسمون على أنفسهم بشكل عدائي، عاجزون عن ترشيح أحدهم لرئاسة البرلمان التي هي من حصتهم وبقي المنصب شاغرًا إلى حد الآن!
الاتجاه الثاني الذي سلكه حزب الدعوة بزعامة رئيس وزراء الأسبق لدورتين نوري المالكي (2006 ــ 2014) هو إنشاء قوات أمنية غير نظامية موازية للقوات الرسمية، تتشكل من فصائل وميليشيات شيعية بهدف السيطرة الكاملة على مفاصل الدولة والهيمنة على قراراتها المصيرية، ومن ثم تشكيل دولة قوية بكامل عدتها وعددها داخل الدولة الرسمية، وقد اعترف المالكي بنفسه أنه هو المؤسس الفعلي لتلك الميليشيات والفصائل المنضوية في “هيئة الحشد الشعبي” والتي وصل عددها إلى أكثر من 79 فصيلًا مسلحًا.
مازالت إستراتيجية الأحزاب تلك هي تكريس الفساد في المجتمع والدولة وإغراقهما في مستنقع الجهل والبطالة والفوضى والمخدرات والاغتيالات ودوامة الصراعات الطائفية والعرقية!
ولكي تكون تلك الدولة “الظلية” قوية ومؤثرة وقادرة على مواجهة التحديات، قامت بتشكيل ائتلاف قوي يجمع الأحزاب والفصائل الشيعية في تحالف سمّي بالإطار التنسيقي لمواجهة التحالف الثلاثي الفائز في الانتخابات؛ التيار الصدري (73 مقعدًا) برلمانيًا، والديمقراطي الكردستاني (31 مقعدًا)، وتحالف السيادة (65 مقعدًا)، ولكن بعد انسحاب التيار الصدري من التحالف ذهبت أصواته إلى تحالف الإطار (الخاسر في الانتخابات) وبذلك تحول “الخاسر” إلى أكبر كتلة برلمانية (130 مقعدًا من مجموع مقاعد البرلمان البالغ 329) الأمر الذي مكنه من تشكيل الحكومة، وبذلك جمع حكومتين مع بعض في حكومة واحدة (الحكومة الرسمية بزعامة محمد شياع السوداني وحكومة الظل بزعامة الميليشيات والفصائل) وهذا الأمر لم يحدث في أيّ دولة في العالم!
ومازالت إستراتيجية الأحزاب تلك هي تكريس الفساد في المجتمع والدولة وإغراقهما في مستنقع الجهل والبطالة والفوضى والمخدرات والاغتيالات ودوامة الصراعات الطائفية والعرقية!
وهذا ما نراه الآن بوضوح في عمليات النهب المنظمة للمال العام وسرقة القرن ونهب خزينة الدولة، وكأن بين العراقيين وبين تلك الأحزاب الطائفية دم و”ثأر بايت” وهما في حالة حرب لا تنتهي!
خلال فترة حكمها الطويل الفاشل (21 عامًا) لم تقدم هذه الأحزاب الحاكمة أيّ خدمات تذكر للمدن العراقية، بل نشرت فيها الخراب والدمار، ومن ثم اتجهت نحو إقليم كردستان واحة الجمال والسلام والتنمية “الوحيدة” في العراق والمنطقة وحاولت جرّ رجله إلى المستنقع العراقي من خلال الحصار والتجويع وتكريس الأنموذج الحضاري المتخلف في الإقليم، ودق الإسفين بين الحزبين الكرديين الرئيسيين وبث الفرقة والتناحر بينهما.
الجانب الكردي يحاول من طرفه جرّ تجار الحروب إلى سلام مستدام وتطبيق القانون والدستور، والمحاولات التي يقوم بها نيجرفان بارزاني رئيس الإقليم بحنكته الدبلوماسية وشخصيته المتناغمة مع الجميع بترسيخ مبدأ السلام والحوار والتعايش السلمي مع بغداد مستمرة. ربما نجحت هذه المحاولات إلى حد ما في زحزحة بعض الآراء العنصرية المتشددة تجاه الإقليم والشعب الكردييْن والوصول إلى نوع من الانفراج السياسي وحل لمشكلة الرواتب المقطوعة منذ 2014.
ونحن نتحدث عن العلاقة الجدلية بين بغداد وأربيل التي بدأت تشهد تطورًا ملحوظًا، يوجد وفد برئاسة وزيرة المالية الاتحادية (طيف سامي) في أربيل العاصمة الآن لوضع اللمسات الأخيرة للاتفاق “النهائي” حول مسألة رواتب موظفي الإقليم، وطبعا يعود الجزء الأكبر من هذا الإنجاز المهم إلى نيجرفان، ولو قدّر لهذا الرجل أن يقود العراق بصلاحية قانونية كاملة، لحل الكثير من الأزمات العالقة التي نعاني منها الآن!