نيجيرفان بارزاني وضع يده على الجرح العراقي النازف

دائما تعود الوفود من الزيارات المنهكة إلى بغداد بخفي حنين وكلما اقترب الطرفان من عقد اتفاق لحل المشاكل جاء طرف ثالث ليدق الإسفين بينهما ويعيد العلاقة المتدهورة بينهما إلى مربعها الأول.
السبت 2024/11/02
المهمة "المستحيلة"

شارك إقليم كردستان في بناء الدولة الجديدة للعراق بعد سقوط النظام البعثي عام 2003، وساهم في إقامة المؤسسات والمرافق الأساسية للبلاد مثل البرلمان والحكومة والمحاكم والمؤسسات الأمنية والعسكرية. واشترك في كتابة الدستور والقوانين التي تسيّر البلاد وتنظمها وفق نظام ديمقراطي فيدرالي. وعلى هذا الأساس عاد إلى “حضن” العراق كدولة اتحادية فيدرالية بعد أن انفصل عنه لفترة من الزمن، وأصبح جزءا أساسيا من المعادلة السياسية للعراق الفيدرالي.

ولكن ما حدث بعد ذلك أن شركاء الحكم من الأحزاب الشيعية التي شكلت الحكومات المتعاقبة بدعم وإسناد من الكرد، تجاوزوا العهود والمواثيق والاتفاقات السياسية التي أبرموها مع الكرد وتوجهوا نحو إعادة الحكم المركزي الشديد إلى الدولة وفرض وصاياهم على إقليم كردستان بالقوة. وعندما رفض الكرد تلك السياسة القهرية وطالبوا بتطبيق المادة 140 من الدستور التي تعالج المشاكل التاريخية في المناطق الكردية التي تعرضت إلى التعريب والتهجير من قبل الأنظمة القومية الشوفينية المتعاقبة، وبدل أن ينفذوا المادة الدستورية المفصلية ليحل السلام في المنطقة وتتهي حروبا دموية بين الإخوة الأعداء، لجأوا إلى فرض الحصار والتجويع على الشعب الكردي منذ 2014 وقطع حصته من الموازنة ورواتب موظفيه.

ومنذ ذلك الحين حاول قادة الإقليم إيجاد مخارج سياسية ودستورية للأزمات العالقة مع بغداد والتي بدأت تكبر وتستفحل بمرور الزمن، ولكن محاولاتهم كلها باءت بفشل ذريع. استمر الوضع على هذا المنوال والشعب الكردي يعاني من التجويع، وبغداد تشدد وتبحث عن خطوة جديدة و”مبتكرة” لإلحاق الأذى بالشعب المسالم، فقطعت عنه صادراته النفطية إلى تركيا عبر المحاكم الفرنسية وحاربته في أخص شؤونه الداخلية وفرضت عليه الدوائر الانتخابية والمفوضية العليا واستنفرت كل طاقاتها لمحاربة إقليم كردستان وإخضاعه لسطوتها التي بدأت تكبر وتتغول من خلال الحكومة والبرلمان والمحاكم وجيش كبير من الطابور الخامس “الجواسيس” داخل الإقليم. بينما انهمكت سلطات الإقليم بإرسال الوفود تلو الوفود وبأعلى المستويات إلى بغداد لوضع حد لتلك العقوبات المتصاعدة التي لا تنتهي.

◄ نيجيرفان بارزاني بذل المستحيل لإيجاد مخرج من الأزمات المشتعلة وفق نصوص الدستور ومن خلال جهود دبلوماسية استثنائية. رغم ذلك ما زالت بغداد تتعامل مع الإقليم وفق نظام مركزي وليس اتحاديا

ولكن دائما تعود الوفود من الزيارات المنهكة إلى بغداد بخفي حنين! وكلما اقترب الطرفان الكردي والحكومي من عقد اتفاق لحل المشاكل، جاء طرف ثالث ليدق الإسفين بينهما ويعيد العلاقة المتدهورة بينهما إلى مربعها الأول.. وهكذا دواليك. الإقليم يقدم تنازلات وبغداد تشدد وتزيد من شروطها التعجيزية، والنتيجة أن الأزمات تراكمت وتعقدت ووصلت إلى طريق مسدود، ما دفع بالإقليم في النهاية إلى إجراء استفتاء للانفصال عن العراق والتخلص من مشاكله وأزماته التي لا تنتهي إلى الأبد في 2017.

بينما فرض الجانب الحكومي المزيد والمزيد من العقوبات الاقتصادية والعسكرية والسياسية الصارمة الجائرة ضده، بذل رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني المستحيل لإيجاد مخرج من الأزمات المشتعلة وفق نصوص الدستور من خلال جهود دبلوماسية استثنائية. رغم ذلك ما زالت بغداد تتعامل مع الإقليم وفق نظام مركزي وليس اتحاديا، وكأننا ما زلنا نعيش في زمن النظام البعثي الصدامي. فالخلل الأساسي الذي لا بد من تصحيحه هو أن يدار العراق بالتوافق بين جميع الأطراف، وفق نيجيرفان بارزاني.

وقد وضع بارزاني يده على الجرح العراقي المزمن وأشار إليه في مناسبات كثيرة، وآخرها منتدى “ميري” للدراسات والبحوث السياسية الذي أقيم بأربيل العاصمة في 30 تشرين الأول – أكتوبر الماضي، حيث كرر ما قاله سابقا، أن “هناك اختلاف رؤى بين أربيل وبغداد، وهو أن الإقليم يرى بغداد على أنها تفرض مركزيتها وتقلص امتيازات  الإقليم وصلاحياته، بينما بغداد ترى أن ما حصل عليه إقليم كردستان يتجاوز الفيدرالية ولديه امتيازات كبيرة، بالمحصلة يجب إيجاد حل يقرّب رؤى الطرفين”.

فهل يستطيع رئيس إقليم كردستان بحكمته المعهودة ودبلوماسيته المشهود لها بالكفاءة، ردم الهوة بين بغداد وأربيل وينجح في هذه المهمة “المستحيلة”؟

9