هل اليسار التونسي مؤهل للحكم
اعتبر حمة الهمامي الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية، على هامش تظاهرة تم تنظيمها بمناسبة الذكرى الثلاثين لتأسيس حزب العمال،(حزب العمال الشيوعي سابقا) أن الجبهة الشعبية هي البديل الحقيقي للأوضاع الراهنة بعد فشل كل من الترويكا وتحالف النهضة والنداء في الحكم. وهذا التصريح الصادر عن زعيم الجبهة اليسارية في مثل هذه الظروف الاستثنائية التي تعيش على وقعها البلاد، فيه الكثير من التصعيد على مستوى خطاب هذا التيار السياسي الذي لم ينجح بعد في التسويق لنفسه كفاعل سياسي يحظى بالدعم والقبول الشعبي طيلة الخمس سنوات الماضية.
فللمرة الأولى يعبر اليسار التونسي (الجبهة الشعبية) بهذا الوضوح عن استعداده ليكون البديل السياسي، مرفقا إعلانه ببرنامج سياسي واقتصادي قيل إنه قد تمت بلورته بالتعاون مع عدد من الخبراء والمختصين، وقادر على تقديم الحلول للمشاكل العالقة في البلاد ولا سيما المتعلقة بمسألتي التنمية وتشغيل العاطلين عن العمل اللتين كانتا السبب المباشر لاندلاع الاحتجاجات الأخيرة في البلاد، فضلا عن طرحها سابقا لمشروع ميزانية بالنسبة لسنة 2015 وقدمت مصادر تمويل تلك الميزانية الداخلية والخارجية.
ويبدو الأمر مثيرا للجدل هذه المرة لأنه وبالعودة إلى الممارسة السياسية لليسار التونسي نقف على تردد هذا الأخير في التعبير عن الرغبة في الحكم وخجله في إعلان القدرة على إدارته إبان الثورة. وكانت نبرة الشك عالية بين اليساريين طيلة هذه السنوات رغم أن سجل الأحداث إبان الثورة يقر بأولويتهم أكثر من غيرهم بالسلطة. فالإسلاميون، سواء الجناح النهضوي أو جناح المؤتمر، عادوا إلى تونس متأخرين من منافيهم الاختيارية. ولكنهم سرعان ما تداركوا تأخرهم بفضل تدفق المال السياسي إليهم أساسا، وتبنيهم خطابا سياسيا شعبويا نجحوا من خلاله في الوصول إلى أعماق المدن والأحياء الشعبيةّ، هذا بغض النظر عن مصداقية هذا الخطاب.
ويبدو أن الجناح اليساري (ممثلا في الجبهة الشعبية التي ينضوي تحت لوائها العديد من الأحزاب التي تتبنى الفكر اليساري في تونس) قد بدأ يستوعب الدروس والصفعات التي تلقاها في ظل الخمس سنوات الماضية والتي فشل فيها الخطاب السياسي للجبهة الشعبية، في الوصول إلى العمق الشعبي، وظل خطاب اليسار التونسي نخبويا لدى الشرائح الاجتماعية التي مرت من الحركة الطلابية في فترة ما من تاريخ البلاد. ورغم تطابق مشكل العدالة الاجتماعية والفوارق الطبقية والارتباط العضوي للاقتصاد التونسي بالدوائر الرأسمالية وانتشار الفساد والرشوة والإرهاب التي تطرحها الجماهير الشعبية مع الرؤية الإيديولوجية والفكرية لليسار التونسي، إلا أن الخطاب السياسي لم يكن قادرا على أن يعكس المتطلبات المنهجية والفكرية للطرح. لذلك ظل الفكر الأيديولوجي بالنسبة إلى التيارات اليسارية، ساريا في العديد من المجالات الثقافية وفي الجامعة والنقابات وغيرها، دون أن تتمكن من إيصاله إلى عقول الجماهير.
كما أن المواقف الأخيرة ــ السالف ذكرها ــ لهذا الجناح السياسي ربما تعكس وعيا مرتبكا بما اقترفته يد اليسار من حماقات ساعدت التيار الإخواني ممثلا في حركة النهضة في تثبيت حضورها في المشهد السياسي، وهي التي انخرطت في جملة من الحملات على غرار اعتصام باردو، وهادنت حزب نداء تونس رغم تحفظاتها الكبرى حول هذا الحزب في سبيل إخراجها من دائرة الحكم. حيث أدى رفض الجبهة الشعبية الاشتراك في حكومة النداء رغم إلحاح اليساريين من داخل الحزب الفائز على أهمية هذه المشاركة، إلى تشريك حركة النهضة الإسلامية في السلطة لبناء حكومة مستقرة.
وهكذا تناقضت حسابات اليساريين بعد الثورة بين من اختار مهادنة التيار الإسلامي ولو ظرفيا، وبين من اختار الجلوس خارج الحكم والمراهنة على التصعيد السياسي لإزاحة خصومه عن السلطة. والحقيقة أن هذا الانقسام كان من جهة بمثابة إسداء خدمة لحركة النهضة، التي كلما انقسم اليساريون تراجع الضغط عليها، وتوفرت لها فرص أكبر للمناورة وبلورة صورة إيجابية قائمة بالأساس على وجود حزب متماسك و”برغماتي”، ومن جهة أخرى ساعد هذا الانقسام والغياب الاختياري عن السلطة الدستوريين على العودة إلى أجهزة الدولة، مستغلين هذا الفراغ من أجل الترويج لمخاطر اليساريين واستحالة التعايش معهم، وعدم أهليتهم ليكونوا في السلطة، لا سيما في ظل التوافق الكبير المسجل في السنة الأخيرة بين عجوزي النداء والنهضة ونعني بذلك الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي. وهذا الواقع أيضا يصب في صالح حركة النهضة، ويوفر الفرصة الملائمة لإنهاء العداوة التي كانت تميز علاقة الإسلاميين والدستوريين منذ أربعين عاما.
وعلى وقع هذه التحولات المتسارعة يبدو أن الستار قد انكشف أمام قادة الجبهة الشعبية اليوم ما جعلهم يعلنون أن الظرف أصبح مناسبا لتوليهم مقاليد الحكم، مراهنين في ذلك على حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يروجون لامتلاكهم برامج كفيلة بحلها، ومعتمدين في ذلك على الثقل الشعبي للاتحاد العام التونسي للشغل (المنظمة الشغيلة في تونس)، طبعا لأن اليسار التونسي مازال لا يحظى بالشعبية اللازمة.
لكن رغم أهمية هذه التطمينات التي يقدمها اليسار التونسي اليوم، إلا أن ذلك لا يكفي عمليا للإقرار بأن السلطة باتت على مقربة من يد هذه القوة السياسية لعدة اعتبارات؛ أولها أن قيادات الجبهة الشعبية مازالت راسية عند الطرح الاشتراكي اليساري الكلاسيكي الذي لا يمكن أن تكون له نجاعة اليوم في ظل سيطرة العولمة الليبرالية على الاقتصاد العالمي وفي إطار مناخ اقتصادي عالمي وإقليمي مرتبط بالأفكار الليبرالية والرأسمالية، رغم محاولاتها العرجاء إثبات أنها غيرت الكثير من أفكارها الكلاسيكية وفق ما تقتضيه المرحلة اليوم. ثانيا عدم توجه القوى اليسارية إلى مراجعة العلاقة النمطية القائمة بينها وبين المجتمع التونسي التي ظلت موسومة بالطابع النخبوي بل وقد تصل إلى نوع من الفوقية، يجعلها في حالة من الانفصام الثقافي، وهو ما خلق هوة عميقة بينها وبين مختلف تلك الشرائح الاجتماعية، لأن الخطاب الفكري والسياسي الذي تروجه غالبية التيارات اليسارية بقي غامضا بالنسبة إلى الشرائح الاجتماعية الدنيا.