عبدالواحد بن ياسر: المسرح العربي لم يعد يساهم في بناء مجتمعات عظيمة

الرباط – اختار المسرحي المغربي عبدالواحد بن ياسر أن يجوب ضفاف الفن الرابع عبر أطروحات متنوعة وثرية أضافت الكثير للمشهد المسرحي العربي وهيأته ليكون أحد أبرز الأكاديميين؛ هو صاحب الابتسامة الدائمة التي تبدو جزءا من كينونته وتتحول أحيانا إلى ابتسامة ساخرة يطلقها مسرحي ألف كيف يداعب أعقد تفاصيل محيطه القريب والبعيد بسخرية غامضة تقول الكثير.
التقت “العرب” بن ياسر مؤخرا، ضمن فعالية مسرحية مغربية، كانت فرصة لنفتح فيها دفاتر أبي الفنون وما يعيشه في العالم العربي ومدى تأثره بما يجري في محيطه المغربي والعربي. يقول بن ياسر إن المسرح المغربي يعيش اليوم وضعية مركبة يصعب نعتها بالانتقالية أو المتحولة، لأن أفق أي نشاط أو ممارسة يتحدد دائما بالراهن تاريخيا ومنطقيا وواقعيا. ويمكن القول إن مسرحنا يعيش جملة من المفارقات، إذ يمكن اعتبار ستينات أو سبعينات القرن الماضي حقبته الذهبية في كافة المستويات أو مكونات الممارسة المسرحية.
ودون أي نزعة نوستالجية تحن إلى زمن ولى وانتهى، وهو التصنيف أو الحكم الذي يحاول المدافعون عن الرداءة أن يلصقوه بكل تقويم نقدي للراهن المسرحي بالمغرب، نستطيع القول إنها كانت فترة الأعمال المسرحية الكبيرة تأليفا وإخراجا وأداء. وهذا بالمناسبة يسري على كل الإنتاج الثقافي والفني ومختلف أجناس الإبداع عندنا، إننا نعيش ما يمكن تسميته بمرحلة الخيبة.
ويضيف بن ياسر لـ “العرب” أن كل ذلك قد تحقق في غياب أبسط شروط الاشتغال والإنتاج، دون دعم مالي ولا وسائل لوجستية ولا قاعات للعرض ولا تنظيم للممارسة ولا مؤسسات للتكوين. لقد كان مسرحا نضاليا وعصاميا، متعدد المشارب الفكرية والحساسيات الجمالية، مكتفيا بذاته وملتزما بإبداعيته، جاعلا منها غايته المثلى وهدفه الأخير.
ولهذه الفترة تنتمي أعمال الطيب الصديقي والطيب العلج والإنجازات الكبيرة لما كان يسمى بمسرح الهواة في العديد من المدن المغربية، ثم تجارب الفرق المسرحية التي ظهرت خلال الثمانينات من القرن الماضي (مسرح اليوم، مسرح الحي..) وغيرها. هذا دون أن ننسى النصوص المسرحية المجددة والطليعية في زمانها، لكل من محمد تيمد ومحمد الكغاط وأحمد العراقي وعبدالسلام الحبيب وعبدالكريم برشيد ومحمد شهرمان والغالي الصقلي وعبدالسلام الشرايبي، على سبيل الذكر لا الحصر. لقد كانت أيضا لحظة الإنجازات الركحية المتميزة لعبدالعزيز الزيادي ومحمد تيمد وكريم بناني وزكي العلوي ونبيل لحلو وغيرهم.
|
لكن المسرحي المغربي يستدرك بقوله إنه إذا كانت هذه هي صورة المسرح المغربي في الماضي، فإن من مفارقاته أنه يظهر في وضعه الراهن كما لو كان منفصلا عن هذا الماضي بلا جذور ودون ذاكرة ولا ذخيرة. ولنقف هنا عند بعض مساحات أو مكونات المشهد المسرحي اليوم بالمغرب.
المعهد العالي للفن المسرحي
رغم تأسيس المعهد العالي للفن المسرحي الذي شكل حدثا هاما ولحظة فارقة تؤسس لانتقال الممارسة المسرحية من العصامية إلى التكوين النظامي المؤسسي والذي كان له دور كبير في تخريج أفواج من المخرجين والممثلين والسينوغرافيين الذين يشكلون اليوم جيلا كاملا من المبدعين الموهوبين في الساحة المسرحية المغربية، فإن بن ياسر يعتبر أنه، منذ تأسيسه، ظل يعاني من ضعف -إن لم يكن انعدام- الوسائل المادية واللوجستية والاعتمادات المالية، حتى أنه لم يتوفر له مقر دائم إلا في السنوات الأخيرة، تنضاف إلى ذلك قلة الموارد البشرية في كل المجالات الإدارية والتأطيرية والتعليمية.
ويرى أن هناك مسألة الدعم المتعلقة بخطة اعتماد الأعمال المسرحية وتمويلها من قبل وزارة الثقافة، بناء على ملفات لطلب الدعم من قبل المشتغلين بالمسرح، والتي تتولى دراستها وتقويمها لجان تتشكل لهذا الغرض. وقد مرت هذه التجربة حتى الآن بأشواط، وتتخللها أعطاب ونواقص تتصل بكيفية تشكيل اللجان ومعايير اختيار أعضائها وأخلاقية عملها، كما هو متداول بقوة في أوساط المسرحيين المغاربة، مما لا يتسع المقام للتفصيل فيه.
أما بخصوص الإنتاج أو الإبداع المسرحي، فإن سؤالا إشكاليا كبيرا يفرض نفسه عن مستوى وقيمة الخلق والإبداع المسرحيين قبل خطة الدعم وبعدها. ما هي الأعمال المسرحية -إلا في استثناءات قليلة جدا- التي سوف تحتفظ بها ذاكرتنا في العشرين سنة الأخيرة؟ هل استطاعت سياسة الدعم أن تنتج لنا أعمالا مسرحية من طراز “المجذوب” و”المقامات” و”ولي الله” و”الحاج عظمة” وغيرها كثير؟ هل أنتجت هذه الفترة نصوصا درامية كبيرة مثل التي أشرنا إليها من قبل والتي يمكن أن تعبر الحاضر وتمتد طويلا في المستقبل، شأنها شأن تلك التي لا تزال تسكن ذاكرتنا المسرحية ويحيا صداها في وجداننا الجماعي؟
ويضيف “لذلك قلنا منذ البداية إن وضعية المسرح المغربي وضعية مركبة، لكن هذا لا يمنع من تسجيل ظهور أجيال جديدة، من حساسيات واختيارات فنية مختلفة، مؤلفين دراميين ومخرجين وسينوغرافيين. أجيال جديدة تمشي بخطى بطيئة أحيانا لكن قيمتها ليست في منجزها المحدود، وإنما في ما تستبطنه وتـعد به في المستقبل”.
وينظم المغرب جملة من التظاهرات المسرحية على صعيد وطني وجهوي غايتها الانفتاح على مسارح عربية ودولية والترويج للمسرح المغربي. لكن المسرحي عبدالواحد بن ياسر يؤكد أن التظاهرات الفنية عموما والمهرجانات المسرحية خاصة آليات للتنوير ولترسيخ قيم الحداثة والجمال والعدل والحق في الاختلاف والتعددية الثقافية والقيمية، وقيم مضافة إلى جانب الإنتاج الفكري والثقافي والأدبي والفني المغربي.
ويشدد على أن حال المسرح المغربي ليس أسوأ من حال المسرح العربي والمغاربي، ولا يقل شأنا عنه؛ نفس وضعية التراجع في الإبداع، إلى جانب إشراقات واعدة هنا وهناك. ويرتبط هذا كله بالظرفية الراهنة التي يمر بها العالم العربي.
|
ويقر بن ياسر بأن هناك عزوفا ملحوظا عن مشاهدة العروض المسرحية لدى المغاربة، بالقياس إلى أقطار أخرى، حتى أن هناك عروضا تقدم أحيانا داخل قاعات شبه فارغة. والكثير من جمهور المسرح المعتاد على ارتياده سابقا، صار يهجره أكثر فأكثر ولم يعد يحضر العروض إلا نادرا، زد على ذلك أن نسبة عالية جدا منه تحضر مجّانا، أو بالدعوات. وهو برأيه حال أغلب الأقطار العربية عدا بعض الدول التي عايش فيها إقبالا بهيجا على العروض، وهذا ما لمسه في أيام قرطاج المسرحية بتونس والمهرجان الدولي للمسرح التجريبي بالقاهرة خلال سنة 2016، حيث أكد أنه عاين حضورا جماهيريا لافتا ينم عن ارتباط وجداني بالفرجة المسرحية، ويؤشر على عودة الروح إلى المسرح في هذين القطرين.
ويقترح المسرحي المغربي القيام بدراسات ميدانية على سوسيولوجيا وسيكولوجيا الجمهور، لتفسير هذا العزوف دون اختزاله إلى مسألة المنافسة الشرسة وغير المتكافئة بين المسرح والتلفزيون، وهيمنة الوسائط الجماهيرية واكتساحها للفضاء السمعي البصري.
انحدار أنظمة التكوين
فيما يتعلق بمشاكل المسرح العربي يقول بن ياسر إن الوضعية الراهنة للمسرح العربي واحدة، ومشاكله متشابهة في كل الأقطار وهي تقهقر في الإنتاج وشح في الدعم وتراجع في الكتابة الدرامية القوية، وحصار للإبداع الحقيقي وانحدار لأنظمة التكوين حتى في المعاهد العريقة بسبب أزمة التعليم العالي الخانقة في مجموع العالم العربي.
ويضيف أنه تبقى فقط بعض بقع الضوء القليلة هنا وهناك، على غرار الجهود التي تبذلها الهيئة العربية للمسرح بالشارقة، سواء في مجال تنظيم دورات مهرجان المسرح العربي السنوية، أو في مجال النشر الخصب الذي يشكل استثناء واضحا ضمن قاعدة الكآبة والقتامة التي يعيشها الكتاب المسرحي في العالم العربي بحثا ونقدا وإبداعا.
ويتابع قائلا “إن هذه المبادرة الطيبة والجيدة تعتريها بعض النقائص سواء في خطة النشر أو في برمجة مواد المهرجان العربي، من عروض مسرحية أو ندوات فكرية أو أنشطة موازية، والمتمثلة في سلوك الزبونية والعلاقات الشخصية، وقد بدا هذا واضحا في الدورة الأخيرة للمهرجان المنعقدة بالجزائر في شهر يناير الماضي”.
وفي سياق حديثه عن تأثير الأنظمة السياسية عربيا على مستوى المسرح، يعتقد بن ياسر أن موضوع العلاقة بين المسرح -والإنتاجات الثقافية عموما- والأنظمة السياسية في العالم العربي، قضية إشكالية وتاريخية، خضعت للتحولات التي مرت بها بلداننا في العقود الأخيرة. ففي ستينات القرن الماضي، كان تدخل الدول في المجال الثقافي مباشرا وقويا بواسطة الرقابة والتوجيه “الدولاتي”. ويجب أن نشير هنا إلى أن إحداث ما سمي بوزارات الثقافة قد تم في أغلب الأقطار العربية (مصر، العراق، المغرب، تونس) في هذه الفترة، تقليدا لبعض الأنظمة التوتاليتارية في أوروبا الشرقية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي. وقد اكتسح هذا النموذج فيما بعد أغلب بلدان العالم شرقا وغربا، فما جدوى أن تكون للثقافة والإبداع بكل أشكاله وزارة وصية؟
الإنتاج المسرحي في أوروبا وأميركا لم يختف ولم يندثر بسبب ظهور السينما وانتشارها، فما زالت الفضاءات المسرحية مزدهرة وتشتغل يوميا، إلى جانب قاعات السينما
ويضيف “اليوم، لم تعد هذه الدول ووزاراتها تتدخل بشكل مباشر في الشأن الثقافي، بل عبر ‘موظفين- مثقفين’، ومجموعات منظمة ووسطاء و’زبانية’، يتحكمون في مسارات الثقافة –ومن ضمنها المسرح- ومؤسساتها وتنظيماتها. ويبقى المثقف أو الفنان الحر المستقل معزولا مهمشا مستنزفا، ونحن نسمع كل يوم الأصوات المبحوحة من شدة الصراخ والاستنكار، ورجع صداها كما في البراري القاحلة”.
وفي ظل غزو السينما والفضائيات والتلفزيون والتكنولوجيا انتشر الحديث عن فرضية أن يفقد المسرح مكانته خاصة مع إصرار الكثير من رواد المسرح -لا سيما عربيا- على عدم إدراج تقنيات سينمائية كبيرة على أعمالهم خوفا من فقدان هذا الفن لجوهره.
لكن عبدالواحد بن ياسر يقول إن مسألة المنافسة بين المسرح والسينما وغزو الوسائط الجماهيرية السمعية البصرية غالبا ما تطرح عندنا بشكل مغلوط، صحيح أن هناك منافسة شرسة بين هذه الحقول، لكن لا ينبغي أن ننسى أن السينما مثلا قد خرجت من معطف المسرح، أبي الفنون كما نردد، وأن أكبر نجوم السينما والسيناريست والمخرجين العظام، جاؤوا إليها من المسرح. ويتابع “إن الإنتاج المسرحي في أوروبا وأميركا لم يختف ولم يندثر بسبب ظهور السينما وانتشارها، فما زالت الفضاءات المسرحية مزدهرة وتشتغل يوميا، إلى جانب قاعات السينما.
ومثلما استفادت السينما من المسرح من قبل، فإن المسرح المعاصر يستفيد كثيرا من السينما والوسائط وفن الفيديو وغيرها. المسألة هنا مرة أخرى سوسيولوجية وثقافية، وليست مسألة تنافس أو صراع من أجل البقاء”.