هلا ورده تكسر "سقف الصمت" في بينالي البندقية

المهندسة اللبنانية تشكل من زيتونة إيتيل عدنان حياة ممتدة في الزمن.
الخميس 2021/12/02
إيتيل عدنان: المرأة التي سارت في اللون كي تصل إليه

بمناسبة اختتام المعرض العالمي السابع عشر للعمارة، بينالي البندقية، أقام الجناح اللبناني سلسلة من الفعاليات من ضمنها معرض تجهيزي حمل عنوان “سقف الصمت” من ابتكار المهندسة المعمارية اللبنانية هلا ورده. عنوان يضمّ في حد ذاته سلسلة من الأفكار تتصل اتصالا مباشرا بعالم الفنانة والشاعرة والصحافية الراحلة حديثا إيتيل عدنان.

اختتم المعرض العالمي السابع عشر للعمارة في بينالي البندقية في الحادي والعشرين من نوفمبر الماضي على أن ينطلق إثرها في جولة عالمية، وسيحط رحاله أولا في قصر طوكيو الباريسي ابتداء من الخامس عشر من أبريل وإلى غاية الرابع من سبتمبر 2022، ثم في متحف “دير جوميج” النورماندي ابتداء من الخامس عشر من يوليو وإلى غاية الحادي والثلاثين من أكتوبر القادمين.

وأشار البيان الصحافي الملازم لهذا الحدث الفني الذي جاء ضمن الاحتفالية النهائية، إلى أن المهندسة اللبنانية/ الفرنسية هلا ورده قد شيّدت مشروع “سقف الصمت” وكأنه مقطوعة موسيقيّة يتردّد صداها في عدة تخصّصات وأشكال وعصور لإضفاء تجربة حسيّة على الفكرة التي تتمحور حول مفاهيم الفراغ والصمت كظروف زمنية ومكانية في العمارة.

وأضاف البيان أن المشروع انبثق عن “عمل فني للشاعرة والفنانة إيتيل عدنان، وصُمّم حول الأساطير والخرافات التي اشتهرت بها أشجار الزيتون الست عشرة في لبنان التي يبلغ عمرها آلاف السنين”.

زجاج ونور

هلا ورده صممت المشروع كي يكون ملاذا لكلمات قصيدتها

فتح المعرض التجهيزي “سقف الصمت” حقل البصر على معنى الصمت والسكون بالنسبة إلى الفنانة إيتيل كما أشار إلى الأجواء الغيبية التي سكنت شعرها، وإلى طاقة الحدس التي نظرت من خلالها الفنانة الراحلة إلى العالم المحيط وإلى عالمها الشخصي حتى جاءت أعمالها الفنية في غاية الصفاء والبساطة والتلقائية، وزاهية ألوانها دون أن تكون مهرجانية، بل قيد سكون اللحظات العادية المُحملة بمعاني الوجود المُقلقة، هذا إن آثرنا التوقّف والتمعّن بها بعيدا عن ضوضاء العيش السريع.

وحلّت الشموع المُضاءة بدلا عن المصابيح الكهربائية على أرض المعرض لتكرّس من ناحية الجوّ العام المُشبع بالسكون، فتهيّأ زائري المعرض للدخول إلى الغرفة المعمارية التي احتوت أعمال الفنانة إيتيل، والتي كانت وفق البيان الصحافي “عبارة عن مبنى من الزجاج والنور يتّخذ شكلا داخليا دائريا بثمانية أضلاع ويعلوه سقف شبه كروي”.

ومن ناحية أخرى لتحوّل نظرات الداخلين إلى تناثر الشمع السائل على الأرض على طول الواجهة الزجاجية، وكي تحاكي بتأثيرها “ما خلّفه انفجار الرابع من أغسطس 2020 من دمار وتصدّع في مدينة بيروت، وتعكس في الوقت عينه بصمات تجاويف أشجار الزيتون وأشكال الفراغ الشبيهة بالمفهوم المُضاد للشكل”.

ثم يدخل زوار المعرض إلى حيّز تلفّه عتمة يكاد لا يضيئها إلا الضوء المنبعث من فيلم مؤلف من ثلاثة أجزاء مستقاة من فيلم لآلان فليشر بعنوان “أشجار الزيتون.. أقانيم
الزمن”.

“تفتح الفنون عيوننا على عوالم توازي العالم الذي تبلغه كلماتنا المنطوقة. غالبا ما يكتنف الصمت المعاني الحقيقية، لا بل دائما. لذلك، لا شكّ في وجود عوالم أخرى إلى جانب ذلك العالم الذي تعرفه كلماتنا”، إنها كلمات الشاعرة والفنانة إيتيل  التي فارقت الدنيا في الرابع عشر من نوفمبر الماضي في باريس عن سن جاوزت التسعين عاما.

كلمات حضرت من خلال صوتها التسجيلي الذي انتشر في فضاء التصميم المعماري المركزي الذي أقامته المهندسة هلا ورده التي ربطتها علاقة صداقة طويلة مع الفنانة.

تقول المهندسة اللبنانية إنها صمّمته خصيصا كي يكون ملاذا لكلمات قصيدتها الأخّاذة التي تتجلّى في لوحاتها الشهيرة وتحمل عنوان “أوليفيا: إجلال لإلهة شجرة الزيتون”. نعم، إنه تكريم لشجرة زيتون إيتيل، ولكن أيضا لكل الأشجار التي رسمتها و”كتبتها” تحت سطوة عشقها للطبيعة والحدس الذي كان معلمها الأول والأخير في جميع فصول حياتها الفنية والخاصة على السواء.

أما حول فعل الكتابة والرسم فجل ما يمكن قوله إنه من الصعب جدا النفاذ إلى عوالم لوحاتها البسيطة التركيب، حيث تتجاور الألوان ولا تتداخل، والزاهية ألوانها من دون الاطلاع على الشعر “البلّوري” المأساوي والنثر الذي كتبته مصقولا بحسها الإنساني ومواقفها السياسية، بعفوية التعبير عمّا تكتنزه روحها.

"سقف الصمت" شيد كمقطوعة موسيقية يتردد صداها في عدة أشكال وعصور لإضفاء تجربة حسية على مفهوم الفراغ

وتبقى رسوماتها المشغولة بالحبر والأحادية اللون والمخطوطة على لفائف الأوراق التي اتخذت شكل آلة “الأكورديون” الموسيقية أقرب إلى ظاهر وباطن الشعر الذي كتبته، إذ يلمع كومضات ولا يهدر ضجيجا كانهمار ماء الشلال.

صمت الغياب

الصمت يؤسّس الأمكنة بثقله “الخفيف”، والسكون يجعله قابلا للعيش إلى أجل مُسمى، أما العوالم الأخرى فهي موجودة بالنسبة إلى الفنانة وأكثر حقيقية وألوانا وصدقا ورأفة من تلك التي نعيش فيها.

عاشت عدنان حياتها سيرا في اللون وما يكتنزه من إحالات فلسفية وميتافيزيقية حتى وصلت إليه في الرابع عشر من نوفمبر الماضي.

ووُلدت إيتيل عدنان في بيروت في العام 1925 لأم يونانية وأب سوري، ونشأت إبان ازدهار الحركات الفكرية والفنية في المدينة، وفي سن الرابعة عشرة سافرت إلى باريس حيث درست الأدب والفلسفة في جامعة السوربون ثم أكملت دراستها في الولايات المتحدة.

عملت بتدريس الفلسفة في جامعة الدومينيكان بكاليفورنيا، وهناك اكتشفت حبها للرسم بتشجيع من الفنانة الأميركية آن أوهانلون، وبدأت لاحقا في دمج اللغة العربية بأعمالها.

وفي العام 1977 نشرت رواية “الست ماري روز” عن الحرب الأهلية اللبنانية، وهو العمل الذي حقّق نجاحا كبيرا استحقت عنه جائزة الصداقة الفرنسية - العربية.

تميّزت في الشعر وكتابة المقال والتأليف المسرحي والرسم والنحت وأصدرت نحو عشرين كتابا بالإنجليزية والفرنسية، وساعدتها مواهبها المتعددة وانغماسها الدائم في التجريب وحبها للتنقل وتمكنها من أكثر من لغة في بلوغ العالمية.

ومن أعمالها الروائية “سفر الرؤيا العربي” و”عن مدن ونساء.. رسائل إلى فواز” و”قصائد الزيزفون” و”سيد الكسوف” و”باريس عندما تتعرّى”.

أما لوحاتها فاتسمت بالصفاء والهدوء والميل إلى تصوير الطبيعة البشرية، وجاءت معبّرة عن الحياة والحب والنقاء، فاقتنتها العديد من المتاحف الكبرى حول العالم.

وفي عام 2018 أقام غاليري “ماس موكا” الأميركي معرضا لمجمل أعمالها بعنوان “شمس صفراء وشمس خضراء وشمس صفراء وشمس حمراء وشمس زرقاء” امتد على غرفتين، إحداهما للوحاتها والأخرى لشعرها، وركّز على الاختلافات في الإدراك بين النظر إلى اللوحات وقراءة الشعر.

وحصلت الراحلة على العديد من الجوائز على مدى حياتها منها لقب “فارس” في الفنون والآداب من الحكومة الفرنسية.

زيتونة قابلة للعيش إلى أجل غير مُسمى
زيتونة قابلة للعيش إلى أجل غير مُسمى

 

ألوان زاهية دون أن تكون مهرجانية (لوحة لإيتيل عدنان)
ألوان زاهية دون أن تكون مهرجانية (لوحة لإيتيل عدنان)

 

ست عشرة شجرة زيتون وحياة واحدة


ست عشرة شجرة زيتون وحياة واحدة

 

15