هشام آمنة وزير تنمية محلية في مهمة حلحلة العُقد

طوال سنوات عديدة مضت، كانت غالبية استطلاعات الرأي في مصر التي تتحدث عن الجهة الأكثر فسادا وبيروقراطية، تشير إلى أن المحليات هي أكثر البؤر الحكومية إثارة لاستفزاز الناس باعتراف مسؤولين ومواطنين على حد سواء.
احتاجت المحليات في مصر إلى أن يكون الوزير المسؤول عن إدارتها من الشخصيات الصارمة التي تضع جملة من الخطوط الحمراء أمام كل من يفكّر في الانحراف والسرقة والفساد المالي والإداري وتعطيل مصالح المواطنين.
ولهذا بدت الاستعانة باللواء هشام آمنة ليكون مسؤولا عن حقيبة التنمية المحلية في التشكيل الوزاري الذي جري في أغسطس الماضي، نقطة انعطاف شعر الكثير من المواطنين معها بأن هناك تغييرا حقيقيا يحدث في ملف المحليات، بحكم السمات الشخصية المعروفة عن الرجل.
صحيح أن الحكومات المصرية المتعاقبة اعتادت الاستعانة بجنرالات من الجيش والشرطة لشغل منصب وزير التنمية المحلية، لكن المتابع لتحركات الجنرال آمنة يدرك أنه يختلف عن معظم من سبقوه في المهمة، فهو صارم وحاسم إلى أقصى درجة، وجاء في مهمة محددة بتكليف من الرئيس عبدالفتاح السيسي لاجتثاث جذور الفساد.
ارتاحت شريحة كبيرة في الشارع المصري لما يفعله آمنة في الآونة الأخيرة بعد قيامه بإجراء أكبر حركة تنقلات في تاريخ المحليات، حيث قام بتغيير العشرات من المسؤولين في أقاليم مختلفة وإقالتهم، وتعهد بإقصاء كل قيادة تفكر في الانحراف.
أقدم على تنظيم تدريبات مكثفة للموظفين والقيادات المحلية في عموم البلاد للقيام بمهامهم بشكل عصري، بحيث يكون الموظف المحلي ملما بكل أبعاد المسؤولية الموكلة إليه والتعامل مع المواطن لإنجاز المهام دون شبهات أو خروقات. وفتح الباب أمام أيّ كادر ليتقدم لشغل منصب قيادة محلية ثم أجرى اختبارات وتدريبات لتولى المهمة دون وساطة أو محسوبية، وأبلغ كل المسؤولين أن وجودهم في مناصبهم لن يكون دائما، بل سيتم تقييم أدائهم كل فترة.
ثورة على الفساد
يُدرك آمنة أنه مسؤول أمام مؤسسة الرئاسة والحكومة بملفات أقرب إلى قنابل موقوتة، فالأهم بالنسبة إلى السلطة أن يكون المواطن راضيا عن الخدمة المقدمة له، لأن الدولة مهما فعلت من إنجازات والمواطن ناقم على الأداء فلا قيمة لكل ذلك.
لم ينتظر طويلا لوضع القيادات المحلية أمام اختبارات لقياس أدائها، فهو يُدرك جيدا أن الوضع مهلهل وفي حاجة إلى تدخل جذري باقتلاع رؤوس الفساد والمحسوبية من مناصبهم وتكليف آخرين على قدر من النزاهة والأمانة لتنفيذ تكليفات رئيس الدولة، وإحساس المواطنين بأن تغييرا يجري على الأرض.
الرجل مكلف بمهام جسيمة للتخلص من المخالفات التي تنتشر في عموم الجمهورية، سواء أكانت مباني على أراض زراعية أو عقارات تم إنشاؤها دون تراخيص، إضافة أنهاء ظاهرة تهالك البنى التحتية وبطء تنفيذ بعض المشروعات القومية وانتشار المشاهد السلبية في الشوارع والميادين، وعلى رأسها القمامة والمواقف العشوائية.
أهم ما يميزه أنه شخصية لا يستهويها العمل المكتبي، ولا تلقّي التقارير التي يتم رفعها إليه لرصد الواقع على الأرض، فهو رجل مكّوكي يتجول في كل مكان ليشاهد بنفسه ما يجري، إدراكا منه لصعوبة أن يكتب أيّ مسؤول تقريرا يدين نفسه، لذلك لا يكلّ من الجولات.
عندما كان مسؤولا عن محافظة البحيرة، في شمال القاهرة، قبل توليه حقيبة التنمية المحلية في التعديل الحكومي الأخير، استطاع أن يترك بصمة جعلت البعض من المواطنين يغضبون بسبب رحيله عن المحافظة، فقد كان ينزل إلى الشوارع والميادين في أوقات متأخرة من الليل ويفاجأ الناس به وهو يتجول أمامهم دون ترتيب مسبق.
ورغم أن البحيرة من أكبر المحافظات مساحة، لكنه كان يقطع مسافات طويلة ويصل إلى المواطنين في أبعد نقطة ليسألهم عن أحوالهم وشكاواهم ورأيهم في أداء موظفي الأحياء، وبعدها يبدأ في محاسبة المقصرين بناء على ما نقله الناس إليه، فهو يؤمن بقيمة المواطن في الرقابة والإصلاح.
يمكن من خلال الفترة التي قضاها محافظا الحكم على شخصيته الإدارية، فهو جنرال لا يهاب أيّ مسؤول يخطئ، وعنيف ضد كل من يستغل منصبه ونفوذه، لدرجة أن بعض نواب البرلمان كانوا يجدون صعوبة في الحصول على توقيعه الشخصي على طلبات الناخبين طالما أنها مصالح شخصية. يسير على عكس العديد من المسؤولين في مصر، فهناك وزراء ومحافظون يستهويهم التقارب مع نواب البرلمان على وجه الخصوص لنيل رضاهم وتجنب أن يتقدموا ضدهم باستجوابات، ولا يرضخ للتهديدات طالما أنه يسير في الطريق الصحيح.
ساعدته السنوات التي قضاها في مؤسسة رئاسة الجمهورية في أن تكون شخصيته صارمة لا يهاب أحدا، فقد كان قريبا من رئيس الدولة، حيث كان مساعدا لرئيس شرطة الحرس الجمهوري بالقصر الرئاسي وقريبا من دوائر صناعة القرار.
عقب حصوله على البكالوريوس في العلوم العسكرية، شغل آمنة العديد من المناصب، منها قائد سرية مدفعية صاروخية، وضابط بأمن الحرس الجمهوري، وقائد سرية بشرطة الحرس الجمهوري، ومدير شرطة الحرس الجمهوري ثم أصبح مساعدا لرئيس شرطة الحرس الجمهوري.
كما تولى عددا من المهام خلال فترة عمله بالحرس الجمهوري، منها أعمال التأمين والحراسة لرئيس الجمهورية داخل البلاد وخارجها، والتأمين والحراسة لملوك ورؤساء الدول العربية والأجنبية أثناء زياراتهم إلى مصر، ضمن فرق الحراسات المكلفة بتأمينهم.
وكان أيضا ضمن المسؤولين عن المراسم والتشريفات بمؤسسة الرئاسة، بالإضافة إلى أعمال أخرى مرتبطة بالتدريب والعلاقات العامة للضباط المنتدبين للحرس الجمهوري، والإشراف على مشكلات أفراد الحرس في النيابات العامة والعسكرية وأقسام الشرطة المدنية والعسكرية. وقضاياهم.
أولى المهام المدنية التي تم تكليفه بها هي رئاسة مدينة القصير، ثم مدينة سفاجا بمحافظة البحر الأحمر، وهما من المناطق الحدودية التي تتعامل معها الحكومة بطبيعة خاصة تتطلب أن يكون المسؤول عنها شخصية عسكرية، ونجح في هذه المهمة باقتدار، ما أهّله إلى أن يشغل بعدها محافظ البحيرة.
بحكم أنه اقترب من القصر الرئاسي وانخرط في العمل بالقرب من الرئيس عبدالفتاح السيسي حين كان وزيرا للدفاع، أو بعد توليه رئاسة الدولة، بات آمنة قارئاً جيداً لما يشغل بال الرئيس، وهو يعي ماذا يريد الرجل من ملف المحليات، ويدرك تماما طبيعة التحديات الموجودة على الأرض.
لدى السيسي رؤية خاصة تجاه المحليات نجح آمنة في تطبيقها إلى حد بعيد، تتلخص في أن تصبح الأحياء لامركزية ولديها صلاحيات واسعة بعيدا عن احتكار الحكومة لكل كبيرة وصغيرة فيها، وهي قضية يدعمها آمنة، لذلك بدأ باختيار الكفاءات التي ستتولى تطبيق اللامركزية.
من المركز إلى الأقاليم
الملف الأهم بالنسبة إليه أن ينجح في تنفيذ المشروع القومي “حياة كريمة” باقتدار وحكمة وفي توقيت قياسي، لأنه يستهدف تحسين قرى الريف والقضاء على الفقر والعشوائيات والسلبيات التي شوهت صورة النسبة الأكبر من مساحة مصر.
ولأن مصر تعاني من كثرة التعديات على الأراضي الزراعية بما أثر بشكل بالغ على المساحات المزروعة، تعامل الجنرال آمنة مع الملف باعتباره مسألة مصيرية، وتعهد بمحاسبة أيّ مسؤول عن ترك أيّ حالة تعدّ دون إزالة أو تصالح وفق شروط الحكومة لعودة هيبة الدولة مجددا.
يُدرك المتابع للرجل أنه يتعامل بعقلية رئاسية بحتة في إدارة ملف المحليات، فهو مطّلع على بواطن الأمر، ثم أنه لم يهبط على وزارة التنمية المحلية فجأة، بل شغل أولا منصب رئيس مدينتين في محافظة حدودية، ويعرف جيدا كواليس العمل بالمحليات ودهاليزه.
◙ شريحة كبيرة في الشارع المصري تبدي ارتياحها لما فعله آمنة بعد قيامه بإجراء أكبر حركة تنقلات في تاريخ المحليات
تعول الحكومة عليه لإقناع الشارع بتطبيق لامركزية المحليات، لتكون هناك صلاحيات أكبر للمحافظين ورؤساء الأقاليم، لكن المهم تمهيد الأرض بإقناع الناس بمزايا الخطوة، ولن يتحقق مراد الدولة في هذا الشأن قبل شعور المواطن البسيط بأن المحليات لن تظل على فسادها للأبد.
شكّل الرجل لأول مرة لجانا في كل محافظة مهمتها الكشف عن وقائع المخالفات والفساد لتطهيرها من المتجاوزين، كخطوة نحو ترضية الشارع وإقناعه بأن هناك شيئا إيجابيا يحدث على الأرض، كما حدد مهلة شهر للتصديق على أيّ مشروع أو طلب استثماري من دون تعقيدات إدارية.
كانت حلول الحكومة لمواجهة العراقيل والفساد في المحليات وتعطيل كل تحرك تنموي أن تستعين بالقوات المسلحة لتنفيذ المشروعات وإنجازها بشكل سريع، لكنها عالجت العرض وليس المرض، حتى أصبحت الأجهزة المحلية طاردة للاستثمارات وعاجزة عن تحقيق أهداف الدولة.
وكثيرا ما ضبطت الأجهزة الرقابية موظفين لارتكابهم مخالفات مالية جسيمة، وظهر ذلك عندما فتحت الحكومة ملفات العقارات المخالفة فتبين حصول البعض من مسؤولي المحليات على مبالغ مالية نظير منح تراخيص غير قانونية وجرى ضبط رشاوى لمسؤولين كبار في الأحياء.
يدعم آمنة تطبيق اللامركزية لتسريع التنمية والقضاء على البيروقراطية بعيدا عن تعطيل مصالح الناس، لذلك يتحرك في الملف بخطى محسوبة من خلال فرض الرقابة على المحليات وإعادة هيكلتها قبل أن تضع الحكومة في مواجهة شارع وصل غضبه من موظفي المحليات للذروة.
محليات بلا انتخابات
يظل أكبر تحدٍ أمام آمنة أنه منذ ثورة يناير 2011 لا توجد في مصر مجالس محلية شعبية منتخبة، بعدما قرر القضاء حلها في يونيو من نفس العام، لذلك أصبحت الأعباء كثيرة، وهو مطالب بتمهيد الأرضية سياسيا واجتماعيا وأمنيا لإجراء انتخابات حقيقية.
والحكومة تتلكأ في عقد انتخابات المحليات كي لا تتحول المجالس المحلية إلى برلمانات صغيرة للمعارضة في كل إقليم وحيّ، ودون القضاء على الفساد وتلبية مطالب الناس بشكل يجعلهم في صف الحكومة سوف يتسلل منتمون لتيارات مناوئة للسلطة.
صحيح أن الأجهزة الرقابية اعتادت توجيه ضربات قوية لموظفين وقيادات بالمحليات، متهمين بالفساد المالي والإداري، لكن يُحسب لآمنة أنه لا يكتفي بتتبع تحركات القيادات الكبيرة وقراراتها من دون النظر إلى كوارث الصفين الثاني والثالث من المسؤولين.
◙ آمنة لم ينتظر طويلا لوضع القيادات المحلية أمام اختبارات لقياس أدائها، فهو يُدرك جيدا أن الوضع مهلهل وفي حاجة إلى تدخل
يفهم ويعي جيدا أن بعض الموظفين الصغار يمارسون إرهابا نفسيا على المواطنين ويشحنون غضبهم تجاه صانع القرار، لذلك يطاردهم بالعزل والعقاب.
وإذا كانت الحكومة تعاني من صعوبة استمالة المواطنين على وقع الأزمات المعيشية، يظل آمنة من الوزراء القلائل الذين نجحوا في إقناع المواطن العادي بأنه شريك في القضاء على الروتين والفساد المالي.
ويواجه اعتماد الرئيس السيسي على الجنرالات في مناصب مؤثرة بتحفظ البعض، لكن هناك ملفات معقدة تتطلب شخصيات تمتلك المزيد من الحسم والصرامة والانضباط وتكون شجاعة في اتخاذ القرارات بعيدا عن الأيادي المرتعشة.
ورغم أن آمنة لم يقض في منصبه كوزير لأحد أهم الحقائب الوزارية المرتبطة بالشارع سوى نحو أربعة أشهر، لكنه أثبت للكثيرين أنه شخصية مؤهلة للنجاح في الوظيفة المدنية الأصعب، ويتمتع بسمات تجعله قادر على فهم مطالب الناس وتحقيقها.