هزيمة نقابة التعليم.. درس للحكومة واتحاد الشغل

الشكوك والتساؤلات ستنتقل إلى بقية القطاعات وسيتضرر الاتحاد منها بشكل مؤثر فالقيادة التي كانت تدفع نحو تصعيد بلا سقف لن يكون بمقدورها الآن أن تأخذ قرارا بالإضراب لأنها لا تضمن نتائجه.
الثلاثاء 2023/07/25
هزيمة نقابة التعليم فرصة لوقف التيار النقابي الجارف

اضطرت نقابة التعليم الأساسي في تونس إلى النزول من شجرة الشعارات والتهديدات التي أطلقتها خلال عام كامل. تراجعت النقابة في هيئة إدارية (أعلى سلطة) عن قرارها احتجاز الأعداد عن التلاميذ، وطلبت من أعضائها الذهاب إلى المدارس ووضع النتائج على ذمة الإدارة والأولياء.

لم يكن قرارا اختياريا، أو بسبب حكمة نزلت فجأة من السماء. كان نتيجة منطقية لتمسك وزارة التربية برفض أسلوب لي الذراع الذي عمدت إليه النقابة.

حين أظهرت الوزارة حزما كبيرا وهددت بالعقوبات ووقف تسليم رواتب شهر يوليو لكل مدرس يتمسك بقرار حجز الأعداد، تغير كل شيء، فقد جرى آلاف المدرسين إلى تقديم الأعداد للإدارات المعنية، وتسليم النتائج للأولياء بسرعة كبيرة.

وكانت الوزارة قد أعفت 350 مدير مدرسة من مناصبهم، وحجزت راتب شهر واحد لـ17 ألف مدرس، على خلفية رفضهم معالجة تقييمات اختبارات التلاميذ، في رسالة قوية على أنها جادة في مواجهة النقابة، وأنها لن تسمح بالمساس بصورة التعليم الحكومي وهز ثقة الأولياء فيه، خاصة في ظل تحول اهتمامات الناس إلى التعليم الخاص والنتائج الكبيرة التي تحققها المدارس والمعاهد الخاصة.

◙ هزيمة نقابة التعليم الأساسي ستكون لها تأثيرات نوعية على وضع العمل النقابي، وعلى الدور السياسي لاتحاد الشغل، وخاصة عودة الدولة إلى إدارة اللعبة بعد أن تحولت إلى طرف ضعيف

لقد أثبتت الوزارة أن الحكومة تستطيع أن تواجه صلف النقابات الذي عاشته تونس بعد ثورة 2011، وهو صلف طال كل شيء وعرقل كل شيء، والأكثر سوءا أنه هز من إمكانيات البلاد هزا عنيفا، حيث إن الجهد الحكومي في جمع التمويلات من الداخل والخارج صار هدفه توفير الأموال الخاصة بالأجور والزيادات التي لا تكاد تتوقف والاتفاقيات المجحفة التي وضعت سيف النقابة على رقبة الحكومة خلال العشرية الماضية.

التونسيون ليسوا ضد النقابة في المطلق، ولكنهم يعارضون هذا الصلف الذي يجعل من مهمة النقابة فرض الأمر الواقع على حكومة تدور من مكان إلى آخر لجمع الأموال لتحريك الاقتصاد والاستثمار وتوفير مواطن الشغل، فتجد نفسها مجبرة على تحويل ذلك الجهد إلى زيادات في الأجور غير مبررة وغير مقنعة ولا يتحملها الاقتصاد.

هزيمة نقابة التعليم فرصة لوقف التيار النقابي الجارف الذي هز البلاد ما بعد 2011، ودفع إلى إرباك الدولة والقطاع الخاص، وزاد شكوك المستثمرين التونسيين والأجانب في مناخ العمل بتونس في ظل موجة المطالب وإجبار المؤسسات على زيادة الأجور والعلاوات أيا كان وضعها المالي رابحة أم خاسرة.

كانت هذه الهزيمة في جانب منها ناتجة عن استنجاد الحكومة بوزير للتربية من منظومة اتحاد الشغل، محسوب على الشق المناوئ لأمين عام الاتحاد نورالدين الطبوبي، وداعم لمسار 25 يوليو 2021 الذي قاد فيه قيس سعيد تمشيا سياسيا لإعادة تفعيل دور الدولة، ومن ضحايا هذا المسار النقابات التي استفادت في العشرية الماضية من ضعف الحكومات وتغليبها أجندات حزبية اختارت ترضية اتحاد الشغل واحتواء الإضرابات بزيادة الرواتب مقابل أن تضمن بقاء بعض الأحزاب في السلطة.

كان وزير التربية محمد علي البوغديري يعرف النقابة من الداخل، كيف تفكر وتتصرف وتبني التحالفات وحدود تأثيرها. ونجح في أن يضرب على الوتر الحساس من خلال الفصل بين نقابتي التعليم الأساسي والتعليم الثانوي.

عكس خطاب الوزير ثقة عالية بالنفس حين طمأن أولياء التلاميذ بأن العودة المدرسية القادمة “ستكون آمنة”، وأن “أزمة التعليم الأساسي قد تمّ تجاوزها ومن يتحدّث عن خلاف ذلك لا تمثيلية له”، في وقت كانت فيه النقابة تطلق التصريحات التصعيدية.

◙ التونسيون ليسوا ضد النقابة في المطلق، ولكنهم يعارضون هذا الصلف الذي يجعل من مهمة النقابة فرض الأمر الواقع على حكومة تدور من مكان إلى آخر لجمع الأموال لتحريك الاقتصاد

لعب الوزير على عامل الوقت لدفع الآلاف من المدرسين إلى التراجع عن قرار احتجاز النتائج لتلافي العقوبات التي قد يكون من بينها العزل من التعليم.

لن تكون نتائج هذه الهزيمة مقصورة على قطاع التعليم، لا شك أن تأثيرها سيتسع ليصل إلى بقية القطاعات وإلى اتحاد الشغل نفسه الذي يشقه تياران رئيسيان حاليا، الأول يمثله الأمين العام وبعض المقربين ويرفع لواء التصعيد، ولو بعد حين، والثاني يمثله شق نقابي مؤثر في قطاعات ذات وزن مثل الصحة والتعليم ويدعم مسار 25 يوليو، ويطالب بمنح الرئيس سعيد فرصة لتحسين الأوضاع. وهذا التيار يعبر عن مجموعات سياسية تصف نفسها بحزام الرئيس مثل حركة الشعب وتيار الوطد (الوطنيين الديمقراطيين).

لا شك أن الخلاف بين الرؤيتين سيتوسع داخل الاتحاد، لاعتبارات سياسية وشخصية، حيث شرعت النقابة في اتخاذ إجراءات ضد النقابيين الذين قبلوا بتسليم النتائج للإدارة من دون موافقتها، وأعدادهم كبيرة، ما يؤشر لخلافات داخلية واسعة السنة القادمة، وهو ما سينعكس على رغبة النقابة بالاستمرار في التصعيد وترحيل الخلاف مع الوزارة للسنة المقبلة.

ولن تقف الخلافات عند نقابة التعليم الأساسي. سيكون هناك صراع بينها وبين نقابة التعليم الثانوي التي قررت وقف التصعيد مع الوزارة مبكرا لاعتبارات من بينها أن رئيس نقابة التعليم الثانوي قريب سياسيا وفكريا من الوزير وشريك له في الحلف المناوئ للطبوبي وجماعته، وهو ما يعني أن قطاعي الأساسي والثانوي سيحرص كل منهما على إفشال تحركات الآخر والتهوين منها والهجوم على النقابيين.

لا شك أن تأثيرات هذا المناخ ستنتقل إلى المدرسين والإداريين في التعليم الأساسي والثانوي، وسيختار الكثيرون النأي بالنفس عن هذا الصراع، الذي خرج من بعده النقابي التفاوضي إلى البعد السياسي المكشوف، من مع السلطة ومن ضدها، خاصة أن النقابات التي كانت تدفع إلى التصعيد في السنوات الماضية صار بعضها الآن يبرر أجندته بالمصلحة وظروف البلاد والانحياز لمسار 25 يوليو لقطع الطريق على عودة المنظومة السابقة.

ستتسع الشكوك والتساؤلات إلى بقية القطاعات، وسيتضرر الاتحاد منها بشكل مؤثر. فالقيادة التي كانت في السابق تدفع نحو تصعيد بلا سقف، لن يكون بمقدورها الآن أن تأخذ قرارا بالإضراب لأنها لا تضمن نتائجه، ولا تعرف من مازال معها ومن قفز من السفينة أو من قرر النأي بالنفس.

◙ لقد أثبتت الوزارة أن الحكومة تستطيع أن تواجه صلف النقابات الذي عاشته تونس بعد ثورة 2011، وهو صلف طال كل شيء وعرقل كل شيء، والأكثر سوءا أنه هز من إمكانيات البلاد هزا عنيفا

ليس أصعب على اتحاد الشغل من هذا الوضع. في السابق كان يواجه الحكومات الضعيفة والمتهاونة بشعار وحدة النقابيين وبإغراءات الزيادة في الرواتب وتحصيل مكاسب ما كان الموظفون والعمال في القطاع الحكومي يفكرون فيها أصلا، مثل الحصول على نسب من أموال الجباية.

هذه الوحدة بوجهها المطلبي النفعي الذي يستقوي على حكومات ما بعد 2011، وبوجهها السياسي في ظل توافق فصائل يسارية وقومية على إسقاط حكم الإسلاميين وتوافقاتهم مع نداء تونس ومشتقاته.

هذه الوحدة تتلاشى الآن لصالح حكومة الرئيس سعيد في ظل توسع دائرة المنتقدين للنقابات في الشارع بسبب أزمة التعليم وارتهان مستقبل التلاميذ الصغار، وهو وضع مثالي للسلطة لتغير التوازنات لصالحها في خطوة أولى تقوم على تفكيك النزعة القطاعية وسعي القطاعات لتتنافس في تحقيق المكاسب على حساب الدولة، ومن ثمة تحجيم الدور السياسي للاتحاد الذي كان يلعبه مستفيدا من التناقضات السياسية وضعف الأحزاب وارتفاع منسوب المطالب في مجتمع رفعت الثورة من سقف عدائه للدولة واستضعافها وإثقال كاهلها بالشروط المجحفة.

والنتيجة أن هزيمة نقابة التعليم الأساسي ستكون لها تأثيرات نوعية على وضع العمل النقابي، وعلى الدور السياسي لاتحاد الشغل، وخاصة عودة الدولة إلى إدارة اللعبة بعد أن تحولت إلى طرف ضعيف مهمته توقيع الاتفاقيات التي تفرضها النقابات بقطع النظر عن واقعيتها ومدى استجابة المالية العمومية لها.

8