هروب الفتيات من بيت العائلة يكشف عدم توازن الأسرة

تتواتر الأخبار في الدول العربية عن حالات هروب الفتيات من بيت العائلة ومن بينهن اللاتي أصبحت قضاياهن دولية بعد أن هربن من بلد إلى آخر. وتتنوع الأسباب التي تدفع الفتيات -خاصة اللاتي في سن المراهقة- إلى الهرب من أسرهن، ومن أهمها العنف الأسري الممارس عليهن بجانب عدم تفهم مشكلاتهن في هذه المرحلة العمرية الحساسة.
لماذا تهرب الفتاة من منزل أسرتها؟ وما الذي يدفعها إلى القيام بهذه الخطوة الخطيرة؟ تساؤلان من بين تساؤلات متعددة تحوم حول دوافع هذا القرار وحول تبريره بأن قسوة الأهل هي السبب، وحول إمكانية أن تكون الفتاة مذنبة وليست ضحية بارتكابها أخطاء جعلت العائلة لا تتفهمها أو اندفعت نحو تعنيفها لفظيا أو ماديا. الثابت أن الوعي المجتمعي العربي لا يتقبل فكرة هروب فتاة من بيت عائلتها. كما يلوم الفتاة وقد لا يتقبل فكرة الهروب، وذلك لكونه يحكم على هذه الخطوة من منظور أخلاقي ولا يستسيغ التمرد على الثوابت والتقاليد وعلى السلطة الأبوية، فمهما كانت المبررات لا يراها تشفع لخروج الفتاة عن حكم أسرتها وإقدامها على العيش بمفردها.
وأكدت العديد من البحوث الاجتماعية أن السبب الرئيسي في هروب الفتيات في المناطق الريفية يتمثل في انتشار العنف الشديد المسلط على الفتيات والسيدات، وأن أسباب هذه الظاهرة تتراوح بين أكثر من 60 بالمئة بسبب العلاقات الغرامية وحوالي 25 بالمئة بسبب القسوة وعدم وجود الأب، وحوالي 10 بالمئة بحثا عن الشهرة والمال وتحقيق الذات، والنسبة الباقية أسباب مختلفة.
وتقول خبيرة العلاقات الأسرية في المركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة سمية شكري، لقد أصبح هروب الفتيات من بيت الأسرة ظاهرة اجتماعية لافتة، يفسرها الأهل أحيانا بأن الفتاة ضاعت أو تم اختطافها خشية نظرة المجتمع، والبعض الآخر يعتبر أنها هربت إلى أحد الأقارب من قسوة الأهل خاصة من زوجة الأب أو زوج الأم. ولكن في كل الحالات، تظل العائلة الطرف الذي يتحمل المسؤولية الكبرى، ويجب أن تكون هناك علاقات قوية بين الأهل والأبناء وأن توفر لهم الأسرة مناخًا من الأمان والود والحب والاحترام وتحتوي الأبناء خاصة في مرحلة المراهقة وتعرف مشاكلهم وتساندهم من أجل حياة آمنة كريمة، لأن عواقب الهروب تكون وخيمة في معظم الحالات.
ويرى المحامي والمستشار القانوني عمرو إسماعيل أن هروب الفتيات من الناحية القانونية لا يشكل جريمة في معظم الدول العربية. وحتى عندما يكون هروب الفتاة من منزلها مصحوبا بسرقة بعض الأموال أو قطع ثمينة من ذهب الأسرة للاستعانة بها في رحلة الهروب، فإن القانون لا يعتبر هذا الفعل من قبيل السرقة ويتغاضى عنه، باعتبار أنه تم بواسطة أفراد الأسرة الواحدة.
الوعي المجتمعي العربي لا يتقبل فكرة هروب فتاة من بيت عائلتها. لكونه يحكم على هذه الخطوة من منظور أخلاقي
ويؤكد إسماعيل أن هروب الفتيات يتحول في حقيقة الأمر وتحت ضغوط العادات والتقاليد في المجتمعات الشرقية إلى فضيحة لا تنتهي، وذلك حتى بموت الفتاة بطلة الفضيحة في بعض الدول العربية، بل يتوارث الأبناء والأحفاد هذه الفضيحة.
اللافت للنظر أن هذه الظاهرة في تزايد مستمر بين الفتيات في المجتمعات العربية بما في ذلك المجتمعات المحافظة، وتقف العديد من العوامل خلف انتشارها، منها انشغال الأب والأم عن متابعة الأبناء -وخاصة الفتيات- وعن معرفة أصدقائهن في المدرسة أو الجامعة، بالإضافة إلى تأثير الانفتاح عبر الفضائيات التي تعرض برامج وأعمالا درامية تتضمن أفكارا غريبة عن تقاليد المجتمعات العربية، بجانب التأثير الكبير لشبكات التواصل الاجتماعي؛ مما جعل ظاهرة هروب الفتيات منتشرة بين فئات اجتماعية مختلفة ولا تستثني فئة دون أخرى، فلا فوارق سواء على المستوى التعليمي أو المادي أو على مستوى السن أو من ناحية مكان المعيشة.
ويضيف المختص في القانون أنه على الرغم من أن كل الهاربات لسن منحرفات، فإن لعنة الهروب تظل تطاردهن، وقد تكون هناك أسباب عادلة تدفع الفتيات إلى الهروب من منزل الأسرة، مثل الظلم الشديد والاضطهاد من جانب الأب أو ذكور الأسرة، بل في بعض الحالات تضطر الفتيات إلى الهروب من المنزل بعد تعرضهن للتحرش أو الاعتداء الجنسي من جانب زوج الأم مثلا أو بعض أفراد الأسرة المنحرفين أو مدمني المخدرات من الذكور.
ويفسر أستاذ علم النفس شاكر عبدالعزيز أسباب ونتائج ظاهرة هروب الفتيات والسيدات من أسرهن، قائلا “للأسف الشديد انتشرت هذه الظاهرة مؤخرا بصورة ملحوظة في مجتمعاتنا العربية، بما في ذلك المجتمعات العربية المحافظة التي لم تكن تعرف مثل هذه الظاهرة من قبل”.
ويشير المختص النفسي إلى أن هروب الفتاة من منزل أسرتها يعود إلى عوامل نفسية؛ فقد تضطر إلى الإقدام على ذلك معتبرة أنه الحل لوضع معيشي معين، وقد تدرك أنه حل متهور لكنها تجد نفسها مدفوعة إليه، لأن بعضهن يقعن فريسة لتفاعلات عنيفة وأشكال من الصراع داخل محيط الأسرة وربما خارجه.
فمثلا إذا كانت لديها رغبة في الارتباط بأحد الشباب وضغط عليها لتهرب معه في حال رفضت العائلتان ارتباطهما، يمكن أن تنساق إلى فكرة الهروب. وبالإضافة إلى الضغوط العاطفية والرغبة في الزواج فقد تنهار كل عوامل الردع النفسي لديها في لحظة معينة وتستسلم.
أما بالنسبة لأفراد أسرة الهاربة، فإن ما يتعرضون له من تنمر مجتمعي وضغوط تشعرهم بالعار والفضيحة يجعلهم يرغبون في الانتقام منها عند عودتها ويقسون عليها كرد فعل على الضغوط الاجتماعية التي تعرضوا لها، ولذلك من الناحية النفسية لا بد من تدخل طرف يحدث نوعا من الاحتواء الإنساني والأسري للفتيات ويمكنهن من البوح بمشكلاتهن دون خوف.
وتوضح أستاذة علم الاجتماع هبة سلامة، أن مناخ التنشئة الاجتماعية السائد في المجتمعات الشرقية يضع الفتاة دائما في دائرة الاتهام، ومثل هذا الوضع الاجتماعي والثقافي في المجتمعات الشرقية يشكل نوعًا من الضغوط سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فإذا ارتكبت أخطاء معينة يعاقبها بكل قسوة نتيجة الشك الاجتماعي.
ويعتبر الهروب من الناحية الاجتماعية نوعًا من الانحراف المركب ويدل على أن العلاقات الأسرية ليست سوية، ومعقدة، ويدل أيضا على وجود انفصال وعزلة اجتماعية، وأن كلا من الأب والأم لا يقومان بدورهما الاجتماعي كما ينبغي، ويدل كذلك على وجود تفكك أسري حاد، ولا يمكن أن ننكر الدور السلبي للتلفزيون والإنترنت اللذين يزرعان داخل عقولهن نوعا من التخدير الإعلامي والاجتماعي؛ جوهره أن الهروب من الأسرة بسبب مشكلة ما ستكون نتيجته حياة أفضل.