"هربة" رحلة إلى كوكب جديد تقطعها شخصيات مرتبكة

عرض كوميدي يستقطب جمهور مهرجان الحمامات الدولي.
الاثنين 2022/08/01
يدخل عزيز الجبالي الخشبة كل مرة بشخصية

عرضت ضمن فعاليات الدورة السادسة والخمسين من مهرجان الحمامات الدولي مسرحية “هربة” للممثل التونسي عزيز الجبالي، وهي عمل من نمط "الوان مان شو"، وهي من المرات النادرة التي يقدم فيها مهرجان الحمامات عرضا من هذا النوع، إذ غالبا ما تقتصر عروضه المسرحية على المسرحيات التجريبية الجادة أو المونودرامية.

غصت مدارج مسرح الحمامات بجمهور غفير في انتظار العرض المسرحي “هربة” للممثل التونسي عزيز الجبالي، الذي بات له جمهور واسع خاصة من الفئات الشبابية التي عرفته بشكل خاص في مشاركاته الدرامية، على غرار مسلسل “النوبة” 1 و2 ومسلسل “كان يا ماكانش” و”براءة”، كلها أعمال ساهمت في شهرة الجبالي الذي لا يعرفه الكثيرون على الخشبة.

الإقبال الكبير على مشاهدة العمل ساهم في خلق أجواء مشوقة إلى ما سيكون عليه، خاصة مع السينوغرافيا المميزة، والبسيطة في آن، طاولة وكرسي في الوسط  وخزانتان شفافاتان يغير خلفهما الممثل ملابسه وملامحه في تقمصه كل مرة لشخصية.

أرض جديدة

لكل شخصية من الشخصيات حكاية مختلفة في درجة حبكتها وإقناعها وهو ما يفرضه هذا النمط المسرحي المفكك

ينطلق الجبالي في عمله بحوار مباشر مع الجمهور لبسط فكرة مسرحيته ألا وهي اصطحابه إلى أرض جديدة موازية، لها قوانين خاصة، أرض تحاول التخلص من عيوب الناس الاجتماعية والعقلية والعادات الخاطئة التي اكتسبها البشر مع مرور الوقت، ونقول البشر لأنه لم يحدد التونسيين بالذات كمقصودين، رغم أنهم هم المقصودون.

إذن هي رحلة إلى كوكب آخر منظم رهانه العلم والبحث والإنسان الفاعل، من هنا تبدو الفكرة مميزة وتنبئ برحلة شيقة إلى الأرض الجديدة، إلى أن ندخل في تشعبات مع شخصيات ربما لا يربطها رابط، عدى أنها ربما تحاول الإقامة في الكوكب الجديد، أو هي تحاول اكتشاف شروط الإقامة فيه.

يدخل الجبالي الخشبة كل مرة بشخصية منها مهدي الطبيب الساذج الذي استفاد من ثروة أهله ليفتح مصحة خاصة، أو سناء الدغماني الملتزمة دينيا، والتي لم يقبل بها أي رجل نظرا إلى أن لها شنبا، وهو نوع من السخرية من المعتقدات الخاطئة التي تنتهجها الكثير من الملتزمات دينيا. وعديدة هي الشخصيات الأخرى مثل رؤوف وسعاد التي تقوم بحصص التنمية البشرية وغيرهما.

لكل شخصية لغتها، ويتنقل الجبالي بخفة بين لسان وآخر وشكل وآخر وخطاب فآخر، فيبرع في تمثل شخصياته المتعددة، وفي استنطاق خفاياها الجسدية والخطابية، في توجه ساخر، في بعض تفاصيله نقد للمجتمع، بينما يجري في نواح أخرى وراء اعتباطية الإضحاك.

من شخصية إلى أخرى ينتقل الممثل ببراعة عبر حل إخراجي جيد هو الشاشة في الخلفية، والتي تندمج مع ما يحدث على الخشبة، فنجد الشاب مثلا الذي يطرق الباب في الشاشة، يدخل إلى الخشبة وكأنه خارج من الخلفية تلك، هذا الاشتغال على بساطته كان من الحلول المهمة في الانتقال من حكاية إلى حكاية أو بالأحرى من وضعية إلى وضعية أخرى.

علاوة على ذلك وجدنا المشهد الذي يتكرر، وفيه يلعب الجبالي دور شخص يريد التقديم في برنامج مواهب، وكل مرة يقدم موهبة مختلفة، الرقص، الغناء، التمثيل، ولكنه يرفض مرارا، وهذا المشهد المتكرر كان حيلة جيدة لربط عناصر العرض، ولكن عدا الشاشة وهذا المشهد، لا يوجد رابط بارز بين عناصر العمل.

إشكالية نص

موهبة مختلفة
موهبة مختلفة

لا نجد أنفسنا في عمق العالم الذي يقترحه الجبالي، رغم أنه وعد بأنه أرض مختلفة، بل نجد أنفسنا إزاء شخصيات، لا رابط بينها ولكل منها حكايتها وتفاصيلها، وتتفاوت حكاية كل منها، في درجة حبكتها وإقناعها، بينما هي لا تنجح مجتمعة في أن تكون عالما متماسكا، ولا عالما مفككا بوعي.

ربما يفرض الوان مان شو هذا التمشي، أن يجعل من العرض قفزات بلا أطر محددة، وربما ما يحسب لعمل الجبالي أنه لم يسقط حتى وهو يقفز من موضوع إلى آخر في الإسفاف الكبير والإغراق في الإيحاءات الجنسية على غرار ما يقوم به فنانون آخرون يدعون أنهم يقدمون عروض وان مان شو، بينما لا يعدو ما يقدمونه عن كلام “شوارعي”.

إذن نجح العرض في ألا يسقط كما أسلفنا في ما سقطت فيه عروض مماثلة، لكن نتساءل ألا يفترض أن يكون هناك نص متماسك، حتى في تفككه  وقفزاته، ألا يفترض أن يكون هناك تأطير أكبر للشخصيات والحالات، وهو ما كان يمكن أن يذهب بالعرض إلى أماكن أفضل.

كان يمكن الاشتغال أكثر على فكرة الأرض البديلة وخلق وضعيات في ذلك المسار ليحافظ العمل على تناسقه

كان يمكن الاشتغال أكثر على فكرة الأرض البديلة وخلق وضعيات في مسار هذه الفكرة، ليحافظ العمل في نهاية الأمر على تناسقه ويطرح نفسه كعرض متكامل أمام الجمهور، لا فقط مجالا لقول النكات أو الجري وراء الإضحاك.

لم يحقق العرض الإضحاك الذي كان ينتظره كثيرون، رغم أنه يحسب له تجاوزه طرق الإضحاك الساذجة من خلال اللهجات الريفية والتنمر وغيرها من أساليب لا أخلاقية، بل كان هذا العرض متوازنا في خطابه، وصالحا ليكون عرضا عائليا، لكن شابه ربما الخلل البسيط في النص، الذي كان يمكن كما أسلفنا أن يسحب الجمهور إلى عوالم أكثر دهشة ومتعة وبالتالي إضحاكا وقدرة على تحقيق التسلية.

ربما لا ينظر لنمط الوان مان شو كمسرح جدي، أو كمسرح أصلا، لكن هذا فيه نوع من القسوة والتكلس الأكاديمي غير المنطقي، إذ الفنون تتجدد وتنفتح وتتوالد من بعضها البعض، فقط يبقى أن نشير إلى أن لكل فن في النهاية رسالة وخطابا، وربما يدخل الكثيرون هذا الفن من باب الستاند آب، تلك الحالة التي يقف فيها شخص ليؤدي نكاتا، لكن الوان مان شو ربما مختلف في أنه أكثر مسرحة، من خلال السينوغرافيا وتقمص الشخصيات وتماسه الكبير مع الموندراما، لكنه بدوره قريب من المونودراما، فقط يختلف عنها في مدى تجسيد الشخصيات والنص إذ يسعى للإضحاك والتسلية أساسا على اختلاف مع الموندراما.

على العموم لعبة التسميات تضيق وتتسع، ويبقى أن عرض “هربة” كان يمكن أن يكون أفضل بكثير إذا كان النص متماسكا أكثر، ربما مجرد صقل دراماتورجي قد يخلق منه حالات أفضل.

13