هدوء بيكابيا وعمقه

فرانسيس بيكابيا ظلمه مارسيل دوشان. رسامان فرنسيان طليعيان مهدا لولادة الفنون المعاصرة. بيكابيا ولد عام 1879 ومات عام 1953. بدأ سيرته الفنية رساما انطباعيا مجيدا.
احتفلت الأوسط الفنية بمعرضه عام 1905، غير أنه سرعان ما اعتبر السلوك الانطباعي نوعا من السذاجة في التفكير الفني. لجأ يومها إلى الوحوشية التي لم تشبعه فصار دادائيا.
أما ما معنى أن يكون المرء دادائيا فتلك حكاية تتعلق بالصدمات التي تعرّض لها الفن في بدايات القرن العشرين من أجل أن يكون حديثا. لقد نسف الدادائيون العلاقة بالماضي حتى أنهم طالبوا بهدم المتاحف والتخلص من الفنون الكلاسيكية.
لم يستمع إليهم أحد وظلت المتاحف في مكانها غير أن ما حدث بتأثير منهم كان حدثا خارقا في تاريخ الفن. لقد دبّ الشكّ بين صفوف الفنانين بفنون الماضي.
جمع بيكابيا بين تمكنه من تقاليد الرسم وبين رغبته في أن يكون ضد الرسم الذي عرف تقاليده، فانتقل إلى المستقبلية وصار يرسم آلات العصر الحديث. كان في تحوّلاته يمشي ملكا، كما يُقال.
غير أن زميله دوشان (1878 ــ 1968) سبقه إلى سلوك فني لم يكن متوقعا، كان ذلك السلوك هو الأساس الذي أقيمت على أساسه أساليب فنون ما بعد الحداثة أو الفنون المعاصرة. حلم حقّقه دوشان فيما كان بيكابيا يرغب في الوصول إليه.
بدأ دوشان بفن المواد الجاهزة من خلال عمله “النافورة” الذي هو عبارة عن مبولة اشتراها من مخزن لمواد البناء المنزلي ووقّعها عام 1917 ثم عمل نسخا منها تحتل الآن مواقع مهمة في متاحف الفن، وانتهى بفن الفيديو الذي كان بدائيا يومها، غير أنه صنع أفلاما لا تزال مبهرة حتى الآن.
لم يكن في إمكان بيكابيا بالرغم من تطرفه أن يغالي في نسف الرسم مثلما فعل دوشان. لقد بقي مشدودا إلى الرسم حتى آخر يوم في حياته. وهو مؤسّس لنظرة حديثة في الرسم. إنه رائد الرسم الهندسي الذي شغف به عدد كبير من الرسامين في العصر الحديث. وإذا ما كان تأثير دوشان على التحوّلات التي شهدها الفن في عصرنا صاعقا، فإن تأثير بيكابيا كان هادئا وعميقا.
