هدم معبد فيسبوك أسهل مما نعتقد

لم أتوقف عن الكتابة، منذ أن عبّرت مثل الكثيرين غيري عن “احتقاري” لفيسبوك لنفس الأسباب التي عادة ما يحتقر الناس بسببها أخبار مس الخصوصية والتفاعلات بالابتسامات الوهمية والمجاملات الكاذبة واللغة الوضيعة، ناهيك عن التنكيل والكراهية المعلنة. وسأعود للكتابة عنه بعد أن ساهمت شجاعة المهندسة فرانسيس هوغن الموظفة السابقة في فيسبوك في زيادة عدد رافعي المعاول لتهديم المعبد على رؤوس مشيده، عندما كشفت أن الشركة تختار الربح المادي على سلامة مستخدميها، معبرة عن خشيتها من تلك القوة الرقمية التي ستزعزع استقرار المجتمعات.
لم يصدمني كلام المهندسة الشجاعة كما لا أتوقع أن يمثل مفاجأة للمحللين التكنولوجيين الذين سبق وأن وصفوا فيسبوك بالشركة الغارقة في الظلام، لكن اعترافات هوغن زادت من الحماس إلى درجة أن الرئيس الأميركي جو بايدن رأى أن معلومات هذه السيدة تظهر أن الشركة “لا تعرف ضبط نفسها”.
هوغن قالت ما هو أهم بالنسبة إلى المستخدمين بتأكيدها “لقد مضيت قدما لأنني أدركت حقيقة مخيفة: لا أحد خارج فيسبوك يعرف ما يحدث داخل فيسبوك. تخفي قيادة الشركة المعلومات الحيوية عن الجمهور والحكومة الأميركية والمساهمين فيها والحكومات في كل أنحاء العالم”. بينما لم يجد مارك زوكربيرغ أمام هذا الكلام غير تكرار ما سمعناه سابقا “فيسبوك لا يغلّب الربح المالي على السلامة”!
فيسبوك يكسب المزيد من المال عندما نستهلك المزيد من المحتوى، ونتفاعل مع الأمور التي تثير رد فعل عاطفية. فكلما زاد الاستياء الذي نشعر به زاد تفاعلنا وزاد استهلاكنا وزادت أموال فيسبوك
كلام هذه المهندسة الشجاعة جعل الحكومات والمستخدمين يتخلصون من الرهبة الوجودية التي تخيم على علاقتنا بعملاق مواقع التواصل الاجتماعي الذي ترك أفضل أيامه وراءه. وبدأ التفكير الجدي في عالم ما بعد فيسبوك. فحماية مجتمعاتنا أكثر أهمية من تعظيم فيسبوك وزيادة أرباحه.
كتب السناتور الأميركي ريتشارد بلومنتال “تظهر تصرفات شركة فيسبوك بوضوح أنها لن تصلح نفسها بنفسها. نحن في حاجة إلى تنظيم أكثر صرامة”.
الفضيحة الجديدة منحت ذخيرة للناقمين على الإمبراطورية الرقمية التي يستخدم منصاتها نحو 3.5 مليار شخص شهريا. وأن الطريق صار أكثر وضوحا أمام المستخدمين، والعالم سيكون أفضل حالا لو لم يكن الجميع يعرف ما يقوم به الآخرون على مدار الساعة. لأن ترسيخ فكرة حاجتنا لمواقع التواصل مثل حاجتنا إلى الماء، نوع من التطرف التكنولوجي الذي تروج له شركات وادي السيلكون.
باختصار رسخت فرانسيس هوغن المرأة الشجاعة، ما كان ينبه له المحللون التكنولوجيون بأن فيسبوك يكسب المزيد من المال عندما نستهلك المزيد من المحتوى، ونتفاعل مع الأمور التي تثير رد فعل عاطفية. فكلما زاد الاستياء الذي نشعر به زاد تفاعلنا وزاد استهلاكنا وزادت أموال فيسبوك. إلى درجة لا يمكن أن تؤثر خسارة زوكربيرغ، قرابة سبعة مليارات دولار خلال الساعات القليلة التي توقف فيها فيسبوك وإنستغرام وواتساب المملوكة للشركة مساء الاثنين الماضي.
قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية أدخلت فيسبوك تعديلات على خوارزمياتها للحد من انتشار المعلومات المضللة، لكن وفقا لهوغن بمجرد انتهاء الانتخابات أعادت المجموعة الخوارزميات كما كانت عليه “بهدف إعطاء الأولوية للنمو على السلامة”.
وقالت “كان هناك تضارب في المصالح بين ما هو مفيد للجمهور وما هو مفيد لفيسبوك”، موضحة بأنها عملت في الكثير من الشبكات الاجتماعية، وكان الوضع في فيسبوك أسوأ بشكل ملحوظ من أي شيء رأته من قبل.
هكذا يظهر لنا فيسبوك مرة تلو الأخرى أنه المستبد الأكبر ويمثل معضلة أخلاقية بالنسبة إلينا جميعا ونحن نتذكر جملة زوكربيرغ الشهيرة التي أطلقها عام 2012 “فيسبوك لا يعني لي مجرد شركة، بل بناء شيء يغيّر الواقع، ويحدث تغييرا فعليا في العالم”.
عملاق مواقع التواصل الاجتماعي لا يمثل قصة سعيدة ولا يمكن اعتباره مرآة للأشخاص كما زعم نيك كليغ الذي هو بمثابة وزير خارجية الشركة العملاقة، بقوله “فيسبوك منصة أشبه بمرآة للمجتمع”، بل إنه سلاح غير مرخص وخارج نطاق السيطرة، وفي أيدي ثلاثة مليارات مستخدم في جميع أنحاء العالم، فالشركة بالأساس تقنية تعاني من وهم أنها دولة قومية. أو بتعبير روجر ماكنامي مؤلف كتاب “الوقوع تحت تأثير زوكربيرغ”، وسائل التواصل الاجتماعي قد ضلت طريقها.
شجاعة المهندسة فرانسيس هوغن الموظفة السابقة في فيسبوك ساهمت في زيادة عدد رافعي المعاول لتهديم المعبد على رؤوس مشيده، عندما كشفت أن الشركة تختار الربح المادي على سلامة مستخدميها
ماكنامي تكنولوجي مخضرم وداعم مبكر لزوكربيرغ، مع ذلك لم يتوقف عن مساندة الذين يمارسون الضغط من أجل تغيير طريقة عمل التكنولوجيا بشكل جذري. ويعتقد أن الوقت قد حان من أجل المزيد من تنظيم عمل تلك الشركات العملاقة.
يختصر جون نوتون الباحث الأيرلندي وأستاذ التكنولوجيا في الجامعة المفتوحة كل ذلك بقوله إن الوحوش مازالت تسرح على فضاءات فيسبوك، لكن هذا ليس سببا لفتح حديقة حيوانات للوحوش نفسها أمام الناس من أجل الفرجة أو حتى محاولة لتدجين المستحيل.
لذلك فإن الاعتقاد بأن الغد مكان مختلف عن اليوم هو بالتأكيد علامة مميزة فريدة لنوعنا، لكن ذلك لا يعني أن فيسبوك مثلا وحده من يمتلك صناعة المستقبل، فالتكنولوجيا لا يمكن اختزالها في جشع كبريات الشركات في وادي السيلكون.
ومن أجل إعادة التاريخ مرة أخرى إلى سكته، يجب أن تكون الحتمية التكنولوجية مرادفة للحتمية التاريخية، وفق تعبير نيكولاس كار مؤلف كتاب “الضحالة: تأثير الإنترنت على عقولنا” الذي سبق وأن استنتج أن زوكربيرغ فصل فيسبوك عن الواقع، وأظهر كيف يمكن لشخص أن يكون على حد السواء، ذكيا بطريقة مذهلة وساذجا بشكل مثير للدهشة.
ليصل إلى القول إن زوكربيرغ ليس شخصا شريرا، لكنه لا يعرف سوى القليل عن العالم الذي يعيش فيه البشر. ذلك ما عبرت عنه هوغِن في تعاطفها مع المدير التنفيذي لفيسبوك بالقول: إنه لم يُرد أبدا إنشاء منصة بغيضة. ولا أحد في فيسبوك شرير. لكن المصالح متوافقة مع خيارات الترويج لنشر محتوى يحض على الكراهية من أجل المال وحده، ومن غيره!
