هجري

من حق الدول أن تقسو على المجرمين من المهاجرين أو أن تستهدف زعماء العصابات الذين يتاجرون بالبشر، لكن القسوة على المهاجرين، وخصوصا الشعبية، تخرج روح البلد من سماحتها. رفقا بهم، فأنا منهم.
الأربعاء 2023/03/01
رفقا بهم

هجري. هكذا اختار المسلمون مسمى سنواتهم. لست ضليعا في التاريخ، لكن الدلالات واضحة. إشارتان ما كانتا لتغيبا عن ذهن المسلمين المؤسسين بشأن مسألة دور الهجرة في نجاح الرسالة.

قبل المسارعة إلى ربط الأمر بهجرة الرسول من مكة إلى يثرب، علينا أن نتذكر الهجرة الأولى، أو للدقة الهجرتين الأوليَيْن إلى الحبشة.

ضيقت قريش الخناق على المسلمين الأوائل، ولم يكن لديهم خيار إلا الهجرة. اختار الرسول الحبشة ليكون المسلمون في رعاية ملكها أصحمة النجاشي. موجة الهجرة الأولى، إذا كان بوسعنا وصفها بالموجة، كانت تضم كبار الصحابة، عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف. أمن الرسول على ابنته رقية، زوجة عثمان، في دار النجاشي أكثر من أمنه عليها بين أهلها في مكة. ثم بعد سنوات، ذهبت موجة أخرى من المهاجرين، أي الهجرة الثانية، على رأسها ابن عم الرسول جعفر بن أبي طالب.

مفارقات تاريخية أن يرتبط الإسلام في مراحل تأسيسه بأناس اضطروا إلى الهجرة بعد أن ضاقت بهم السبل. كانوا، باستخدام التعابير الحديثة، مهاجري قوارب عبروا البحر الأحمر نحو الحبشة. كانوا، وهم البيض أو السمر عرقيا، يطلبون اللجوء عند ملك أسود يحكم مملكة سوداء تمور بالمشاكل السياسية والتحديات. لا شك أن حركة بيض وسمر في أحياء وأسواق العاصمة (لا أعرف اسم عاصمة مملكة أكسوم – الحبشة) كانت تثير الاستغراب وربما التذمر. هؤلاء بلون مختلف وعرق مختلف، بل أكثر من هذا: ماذا يفعل مسلمون بين شعب مسيحي؟

الهجرة الثالثة، أي هجرة الرسول إلى يثرب وتأسيس الدولة العربية الإسلامية في المدينة، كانت هجرة سياسية، ولكنها بدأت كمشروع لجوء قبل أن تتحول إلى مشروع دولة. بقية الرواية معروفة.

ما لنا وحديث التاريخ؟ نحن في القرن الحادي والعشرين. ولكن متى توقفت الهجرة لنميز بين القرون؟ ثم ماذا سيكون حال الدول الهشة اقتصاديا من دون تحويلات أبنائها من المهاجرين؟

المهاجرون حقيقة اقتصادية اليوم. وهم حقيقة سياسية، في بلد المهجر وفي بلدانهم. وزارات الخارجية في عدد من الدول غيرت مسمياتها وأضافت “الجالية الوطنية في الخارج” و”المقيمون بالخارج” و”الهجرة”. كيف وصل مهاجرو هذه البلاد، وكم منهم من بقي بعد انتهاء فيزته أو عبر “حرقة”، وكم منهم كان نظاميا؟ هذه تبدو تفاصيل لهذه الوزارات. لكن المؤكد أن المهاجرين من بلادنا بلغت أعدادهم مئات الآلاف لبعض الدول والملايين لدول أخرى، بما يستدعي أن تكون لهم دوائرهم الانتخابية المهاجرة وحصتهم في برلمانات بلادهم. هذه أعداد يمكن أن تُغيّر حتى موازين الانتخابات في بلداننا، كما تغيّر موازين الانتخابات في بلد الإقامة.

من حق الدول أن تسن القوانين التي تنظم الهجرة، أو أن تقسو على المجرمين من المهاجرين أو أن تستهدف زعماء العصابات الذين يتاجرون بالبشر، لكن القسوة على المهاجرين، وخصوصا الشعبية، تخرج روح البلد من سماحتها. رفقا بهم، فأنا منهم.

18