هجرة "في أي بي"

الفقر لم يعد أنك لا تمتلك شغلا أو أنك تذهب إلى أوروبا أو الخليج لتحسين وضعك المالي. الفقر الآن هو ألاّ تمتلك مثلما يمتلك النجوم الذين تطارد أخبارهم.
الأحد 2022/08/21
يمكن ترميم أحلام هؤلاء الشباب في بلادهم

لم تعد المغامرة بالهجرة السرية، أو غير النظامية، ناجمة فقط عن الفقر الذي يعيشه بعض سكان دول الجنوب، الذين كانوا يبحثون في عقود ماضية عن العمل، أي عمل في حظائر البناء، في محطات البنزين، المهم أن يقي من الفقر.

الآن تغير المفهوم بتغيير الأحلام، ليصبح هدف الهجرة تحصيل الأموال الكافية للعيش كما يعيش النجوم الافتراضيون الذين يراهم الشباب على مواقع التواصل ويقرأ قصص حياتهم الباذخة، نجوم الراب والسينما والمسلسلات والرياضة، هجرة “في أي بي”.

المعادلة تغيرت، فالفقر لم يعد أنك لا تمتلك شغلا أو أنك تذهب إلى أوروبا أو الخليج لتحسين وضعك المالي ثم تعود فتتزوج وتبني بياتا وتشتري سيارة كما يفعل أغلب أبناء جيلك. ذلك جيل قد مضى. الفقر الآن هو ألاّ تمتلك مثلما يمتلك النجوم الذين تطارد أخبارهم على إنستغرام أو تيك توك، وهو ما يعني أن وضعك الاجتماعي سيكون مصنفا ضمن دائرة الفقر.

منذ أيام قررت سيدة تونسية تمتلك وظيفة قارة وبيتا وسيارة أن تبيع ما تملك وتهاجر هي وأبناؤها إلى أوروبا بحثا عن حياة جديدة. تغامر عبر البحر وتركب قوارب الموت وتدفع قرابة 17 ألف دولار (50 ألف دينار تونسي) لمنظمي الرحلات المجهولة من أجل أن تصل إلى أوروبا دون أن تكون قد ضمنت النجاة من الموت غرقا، ولا الاعتقال والسجن والترحيل، أو أن تقع ضحية مافيات الاتجار بالبشر، أو مافيات المخدرات. المهم أن تهاجر.

يربط بعض الباحثين الاجتماعيين هذه الهجرات الجماعية من تونس إلى أوروبا بصدمة ثورة 2011 التي دفعت التونسيين إلى رفع سقف طموحاتهم بالعمل والثروة ومكافحة الفساد، لكن الفوضى التي عاشتها الثورة وفشلها ليس في تحسين الأوضاع فقط بل في خسارة الأوضاع السابقة التي كانت تضمن الحد الأدنى من الاستقرار.

من السهل أن تقرأ مواقف لكثيرين يقولون إن هذا البلد لم يعد يطاق، ويعدد كل واحد أسبابه، لكن تقف عند نقطة واحدة أن الوضع القائم بات أقل من أحلام الناس، وخاصة الأجيال الجديدة من الشباب سواء الذين تخرجوا في الجامعات أو فشلوا في تعليمهم. هناك الآلاف من الأطباء ورجال الصحة والمهندسين الذين خرجوا بطرق عادية، والآلاف من الشباب “الحارق” الذي يريد أن يعوض فشله في تونس بأعمال أخرى في أوروبا.

لكن ماذا يمكن أن تكون هذه الأعمال التي ستجلب ثروة كبرى كالتي يحلم بها شبابنا وعائلاتنا. بالتأكيد هذه الأعمال لا توجد في خيال هؤلاء الشباب الذين تخدعهم مواقع التواصل وقصص نجاحات النجوم وتدفعهم إلى مغامرة فاشلة مسبقا.

يمكن ترميم أحلام هؤلاء الشباب في بلادهم وإخراجهم من الوهم، وإن كان الأمر سيحتاج إلى وقت وصبر.

20