هجار عيسى فنان يبحث عن كائنات جديدة لم يخلقها أحد

يوسع الفنان السوري هجار عيسى فسحة التأمل الخاصة به، فيطّلع على التجارب والنصوص البصرية للأقدمين، لينتج كائناته الخاصة، الخارجة عن السائد والمألوف، فيقودها حيث يشاء، ومن خلالها يتجرأ بقوة على السائد والمألوف بعيدا عن اقتباسات الآخرين.
حين يؤمن الفنان بأن الحقل الذي يحرث فيه سيثمر، وأي ثمار، إنها ثمار مغايرة للمألوف، ثمار لا تنصرم مع الزمن ولا تذبل أبدا، حين يؤمن الفنان بأن بلورة الرؤية لخلق كائنات تتحرى الاشتباك العميق في ما بينها أولا ومن ثم بينها وبين كائنات أخرى من حياة أخرى ثانيا، لا بدّ أن تكوّن لديه نظرة أشمل وأوسع في رسم سياق خاص به دون أن يحتاج إلى مفاتيح مستوردة، سياق يمنحه أسلوبا له كل العلاقة بسرديات ميثيولوجية، وهذا ما سيطبع عمله بخصوصيات نوعية في غاية الدهشة والذهول سيعيد من خلالها تفسير كل المظاهر الغائبة، عبر مقاربة مفاهيم بها سيفضي إلى المنحى التجريدي التعبيري الضارب بجذوره في فرضيات قد تكون هي الحاضنة الجمالية لتجربته.
هجار عيسى يقود مخلوقاته بعيون مفتوحة على المساحات وبتقنيات حديثة بحثا عن الأبقى وتجنبا للإيهام الواقعي
والفنان السوري عيسى يبحث عن كائنات جديدة لم يخلقها أحد وإن كنا نجد ما يشبهها ترعى في حقول فاتح المدرس، ليرسل فيها الروح في مساحات عوالمه أي في لوحته. فهذه الكائنات ستتوالد وفق ما يطرحه هجار وضمن توجه وعيه العميق لتأسيس أطروحات جديدة قد تحتاج إلى سجال طويل بينه وبين تلك الكائنات من جهة وبينها وبين المتلقي من جهة ثانية وفي ما بينها من جهات أخرى.
قد يخلق ذلك إشكالا غير تقليدي وعلى نحو أخص في دمج مخلوقات الفنان في الحكاية المعاصرة وهذا ما يجعله يطلق وضمن إحداثيات معرفية رؤية بها يتجاوز الخطاب الجمالي لحظة اندلاع شرارتها، فمخالفته لكل المقولات مسبقة الصنع يُكرّس لديه تكوينات تعتمد على صوت متخفّ يستخدم تقنية المزاوجة بين زوايا الرؤيا، بمعنى آخر يعطي المساحات كلها لمتلق يبقى مطولا تحت وطأة كائنات هجار ليتحدث بدوره عن علاقته بمنتج أمامه مرغما على عدم تجاهل تلك الخطوات التي ستقوده إلى الحافة لاحقا.
يبتعد هجار ويقترب بدرجات متفاوتة من مسائل هي غابة مقدّسة، مسوّرة بقوى عقلية وذهنية. هي علامات قد تكون مفيدة للفنان وعلى نحو أكثر في كسره لكل الإشارات الملتبسة ضمن علاقة لا متناهية، فليس عبثا حين يُسْكن هجار فراغاته بأصوات لمخلوقاته ستحدد له تتابع من العلاقات الإيجابية بالحداثة، والتي ستشكل له هوية بها يضيء تجربته بعيدا عن صخب الأزقة وجعجعة الفراغ الذي يلف الشارع التشكيلي.
ورغم وجود مساحة لا بأس بها من الخلاف أو على نحو أصح الاختلاف كشرط تاريخي في تحوّل فعل اجتماعي إلى فعل فني جمالي فإننا نقر مع هجار بوجود الوفرة في توسيع فسحة التأمل مع جديتها في الدعوة إلى تخصيص أدائها في باب يغوص في العتبات قبل المتن رغم تهميشنا لتلك الإشكاليات المتعلقة ببعض التفاصيل والحركات النسبية التي تحتاج إلى إعادة تقييم العمل المنتج وما يلاحظ عليه من توازنات وتطورات هي بالتالي خصائص لكائناته التي تعوم وتسرح في مجمل أعماله الأخيرة.
وقد يزيح الفنان الأرض من تحت كائناته لا كانتكاسة في ريادة ما، بل كتعميم بأن فكرة الإزاحة لاحتمالات منجزة من الممكن أن يُفْتح باب أو أكثر مما يحتاجه هجار.
والآن دعونا نعود إلى الأسئلة الجوهرية التي يطرحها هجار في أعماله وأهمها السؤال الذي يخلخل مقاييس الخلق، هل فعل الخلق عند هذا الفنان وعلى نحو أخص لكائناته يحتاج إلى دورة ديالكتيكية من منظور معرفي بها جدل وصراع وتطور، أم هي ليست سوى إحدى تجليات الاقتباس من حقول أخرى أم هي مجازفة تحمّس لها هجار تجنبا للارتباك والتناقض.
وحين نرى عيسى وهو يقود مخلوقاته بعيون مفتوحة على المساحات وبحِراك مفتوح أيضا وبتقنيات حديثة بحثا عن الأبقى وتجنبا للإيهام الواقعي يعني أنه يتقصى الإدراك ضمن لحظة قياسية لخلق أسلوب جديد، وقد يكون للتاريخ الأثر الأكبر في تصعيد مشاهده دراميا وعلى نحو أخص حين الانتقال إلى العلاقة المعرفية بينه وبين كائناته وهذه العلاقة لا يمكن أن تغيب من دائرة الخلق لديه، فهو يعرف خفايا تلك الكائنات وأسرارها، فيسمع حكاياتهم حيث لا شيء، وحيث كل شيء، ويدفع بالمتلقي إلى مشاركته في هذا السماع وفي هذه الحياة ضمن تدرجات لونية ينجزها بتعبيرية يسرد بها أسئلته مع استئثاره بتفكير المتلقي، بل وتحريضه على التأمل العميق، ذلك التأمل المرتبط بصلب بناء العملية المعرفية.
ولا يغيب من بال الفنان أن الواقع هو خارج القوى المتفاعلة ضمن مخلوقاته وعلى غاباتهم، فهو يعمل على خلق إضافات إبداعية خارج نطاق النمطية الذي بات هشا في بنائه إلى حد الفانتازيا، ولهذا يصل إلى حد التماهي في عملية الخلق حين يباغتنا بتفاصيل كائناته التي تتوالى وكأنها قادمة من نصوص الأقدمين، وهذا ما يدفعنا إلى التأويل الجديد وذلك بتوظيف حساسياتهم في بؤرة تكون هي الغاية التي ستضيء لهم مفاصل عوالهم بصياغات كافكية.
الأهم أن هجار يهتم كثيرا بتسجيل حكايات تلك الكائنات بدرجة اهتمامه باللون الجريء على طبق غير مُعلَّب، بل يتجرأ بقوة على السائد والمألوف بعيدا عن اقتباسات الآخرين، فما يهمه هو التسليم بوجود لغة يفضي بها إلى البحث بحكم حبه للتجريب، وهذا ما يحرره من قواعد الشكل ومن قيود المضمون، تاركا تكويناته تتولى الاهتمام بطروحاته القائمة أصلا على تجاوز التقليد بمتعة فنية وبتكثيف الحوار بين مفرداته ليشكل سيرة ذاتية لكائناته القادمة من زمن غابر.